وذاك لأن المعنى في بيت الأعشى على أن هناك موقداً يتجدد منه الإلهاب والإشعال حالاً فحالاً. وإذا قيل: محرقة كان المعنى أن هناك ناراً قد ثبتت لها، وفيها هذه الصفة. وجرى مجرى أن يقال: إلى ضوء نار عظيمة في أنه لا يفيد فعلاً يفعل. وكذلك الحال في قوله: بعثوا إلي عريفهم يتوسم. وذلك لأن المعنى: على توسم وتأمل ونظر يتجدد من العريف هناك حالاً فحالاً، وتصفح منه للوجوه واحداً بعد واحد. ولو قيل: بعثوا إلي عريفهم متوسماً، لم يفد ذلك حق الإفادة. ومن ذلك قوله تعالى: " هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض " لو قيل: هل من خالق غير الله رازق لكم، لكان المعنى غير ما أريد. ولا ينبغي أن يغرك أنا إذ تكلمنا في مسائل المبتدأ والخبر قدرنا الفعل في هذا النحو تقدير الاسم، كما نقول في: زيد يقوم إنه في موضع زيد قائم فإن ذلك لا يقتضي أن يستوي المعنى فيها استواء لا يكون من بعده افتراق؟ فإنهما لو استويا هذا الاستواء لم يكن أحدهما فعلاً والآخر اسماً، بل كان ينبغي أن يكونا جميعاً فعلين أو يكونا اسمين. ومن فروق الإثبات أنك تقول: زيد منطلق و زيد المنطلق والمنطلق زيد.
فيكون لك في كل واحد من هذه الأحوال غرض خاص، وفائدة لا تكون في الباقي. وأنا أفسر لك ذلك.
اعلم أنك إذا قلت: زيد منطلق كان كلامك مع من لم يعلم أن انطلاقاً كان لا من زيد ولا من عمرو. فأنت تفيده ذلك ابتداء. وإذا قلت: زيد المنطلق كان كلامك مع من عرف أن انطلاقاً كان إما من زيد وإما من عمرو فأنت تعلمه أنه كان من زيد ودون غيره. والنكتة: أنك تثبت في الأول الذي هو قولك: زيد منطلق فعلاً لم يعلم السامع من أصله أنه كان. وتثبت في الثاني الذي هو زيد المنطلق فعلاً قد علم السامع أنه كان، ولكنه لم يعلمه لزيد، فأفدته ذلك. فقد وافق الأول في المعنى الذي له كان الخبر خبراً، وهو إثبات المعنى للشيء. وليس يقدح في ذلك أنك كنت قد علمت أن انطلاقاً كان من أحد الرجلين، لأنك إذا لم تصل إلى القطع على أنه كان من زيد دون عمرو كان حالك في الحاجة إلى من يثبته لزيد كحالك إذا لم تعلم أنه كان من أصله.
وتمام التحقيق أن هذا كلام يكون معك إذا كنت قد بلغت أنه كان من إنسان انطلاق من موضع كذا، في وقت كذا، لغرض كذا، فجوزت أن يكون ذلك كان من زيد. فإذا قيل زيد المنطلق صار الذي كان معلوماً على جهة الجواز معلوماً على جهة الوجوب. ثم إنهم إذا أرادوا تأكيد هذا الوجوب أدخلوا الضمير المسمى فصلاً بين الجزءين، فقالوا: زيد لمنطلق.
ومن الفرق بين المسألتين وهو ما تمس الحاجة إلى معرفته أنك إذا نكرت الخبر أن تأتي بمبتدأ ثان على أن تشركه بحرف العطف في المعنى الذي أخبرت به عن الأول. وإذا عرفت لم يجز ذلك. تفسير هذا أنك تقول: زيد منطلق وعمرو. تريد: وعمرو منطلق أيضاً. ولا تقول: زيد المنطلق وعمرو. ذلك لأن المعنى مع التعريف على أنك أردت أن تثبت انطلاقاً مخصوصاً قد كان من واحد فإذا أثبته لزيد لم يصح إثباته لعمرو. ثم إن كان قد كان ذلك الانطلاق من اثنين فإنه ينبغي أن يجمع بينهما في الخبر فتقول: زيد وعمرو هما المنطلقان، لا أن تفرق فتثبته أولاً لزيد، ثم تجيء فتثبته لعمرو. ومن الواضح في تمثيل هذا النحو قولنا: هو القائل بيت كذا، كقولك: جرير هو القائل، من الطويل:
وليس لسيفي في العظام بقية
فأنت لو حاولت أن تشرك في هذا الخبر غيره فتقول: جرير هو القائل هذا البيت وفلان حاولت محالاً، لأنه قوله بعينه. فلا يتصور أن يشرك جريراً فيه غيره.
واعلم أنك تجد الألف واللام في الخبر على معنى الجنس، ثم ترى له في ذلك وجوهاً: أحدهما: أن تقصر جنس المعنى على المخبر عنه لقصدك المبالغة، وذلك قولك: زيد هو الجواد، وعمرو هو الشجاع، تريد أنه الكامل. إلا أنك تخرج الكلام في صورة توهم أن الجود والشجاعة لم توجد إلا فيه، وذلك لأنك لم تعتد بما كان من غيره لقصوره عن أن يبلغ الكمال. فهذا كالأول في امتناع العطف عليه للإشراك. فلو قلت: زيد هو الجواد وعمرو كان خلفاً من القول.


الصفحة التالية
Icon