تفسير ذلك أنك إذا قلت: زيد منطلق، فقد أثبت الانطلاق لزيد، وأسندته إليه. فزيد مثبت له، ومنطلق مثبت به. وأما تقدم المبتدأ على الخبر لفظاً فحكم واجب من هذه الجهة أي من جهة أن كان المبتدا هو الذي يثبت له المعنى ويسند إليه، والخبر هو الذي يثبت المعنى ويسند. ولو كان المبتدأ مبتدأ لأنه في اللفظ مقدم مبدوء به لكان ينبغي أن يخرج كونه مبتدأ بأن يقال: منطلق زيد. ولوجب أن يكون قولهم: إن الخبر مقدم في اللفظ والنية التأخير، محالاً. وإذا كان هذا كذلك، ثم جئت بمعرفتين فجعلتهما مبتدأ وخبراً فقد وجب وجوباً أن تكون مثبتاً بالثاني معنى للأول. فإذا قلت: زيد أخوك كنت قد أثبت ب أخوك معنى لزيد. وإذا قدمت وأخرت فقلت: أخوك زيد وجب أن تكون مثبتاً بزيد معنى ل أخوك، وإلا كان تسميتك له الآن مبتدأ وإذ ذاك خبراً تغييراً للاسم عليه من غير معنى ولأدى إلى أن لا يكون لقولهم: المبتدأ والخبر فائدة غير أن يتقدم اسم في اللفظ على اسم من غير أن ينفرد كل واحد منهما بحكم لا يكون لصاحبه، وذلك مما لا يشك في سقوطه.
ومما يدل دلالة واضحة على اختلاف المعنى إذا جئت بمعرفتين، ثم جعلت هذا مبتدأ وذاك خبراً تارة وتارة بالعكس قولهم: الحبيب أنت، وأنت الحبيب وذاك أن معنى الحبيب أنت أنه لا فصل بينك وبين من تحبه إذا صدقت المحبة، وأن مثل المتحابين مثل نفس يقتسمها شخصان، كما جاء عن بعض الحكماء أنه قال: الحبيب أنت إلا أنه غيرك، فهذا كما ترى فرق لطيف، ونكتة شريفة. ولو حاولت أن تفيدها بقولك: أنت الحبيب، حاولت ما لا يصح. لأن الذي يعقل من قولك: أنت الحبيب، هو ما عناه المتنبي في قوله، من البسيط:

أنت الحبيب ولكني أعوذ به من أن أكون محباً غير محبوب
ولا يخفى بعد ما بين الغرضين، فالمعنى في قولك: أنت الحبيب، أنك أنت الذي أختصه بالمحبة من بين الناس. وإذا كان كذلك عرفت أن الفرق واجب أبداً، وأنه لا يجوز أن يكون أخوك زيد وزيد أخوك بمعنى واحد.
وهاهنا شيء يجب النظر فيه، وهو أن قولك: أنت الحبيب، كقولنا: أنت الشجاع، تريد أنه الذي كملت فيه الشجاعة. أو كقولنا: زيد المنطلق، تريد أنه الذي كان منه الانطلاق الذي سمع المخاطب به. وإذا نظرنا وجدناه لا يحتمل أن يكون كقولنا: أنت شجاع، لأنه يقتضي أن يكون المعنى أنه لا محبة في الدنيا إلا ما هو به حبيب. كما أن معنى في هو الشجاع أنه لا شجاعة في الدنيا إلا ما تجده عنده، وما هو شجاع به، وذلك حال.
وأمر آخر، وهو أن الحبيب فعيل بمعنى مفعول. فالمحبة إذاً ليست هي له بالحقيقة، وإنما هي صفة لغيره قد لابسته، وتعلقت به تعلق الفعل بالمفعول. والصفة إذا وصفت بالكمال وصفت به على أن يرجع ذلك الكمال إلى من هي صفة له دون من تلابسة ملابسة المفعول. وإذا كان كذلك بعد أن تقول: أنت المحبوب، على معنى أنت الكامل في كونك محبوباً. كما أن بعيداً أن يقال هو المضروب، على معنى أنه الكامل في كونه مضروباً. وإن جاء شيء من ذلك جاء على تعسف فيه، وتأويل لا يتصور هاهنا، وذلك أن يقال مثلاً: زيد هو المظلوم، على معنى أنه لم يصب أحداً ظلم يبلغ في الشدة والشناعة الظلم الذي لحقه، فصار كل ظلم سواه عدلاً في جنبه. ولا يجيء هذا التأويل في قولنا أنت الحبيب، لأنا نعلم أنهم لا يريدون بهذا الكلام أن يقولوا: إن أحداً لم يحب أحداً محبتي لك. وإن ذلك قد أبطل المحبات كلها، حتى صرت الذي لا يعقل للمحبة معنى إلا فيه. وإنما الذي يريدون أن المحبة مني بجملتها مقصورة عليك، وأنه ليس لأحد غيرك حظ في محبة مني.


الصفحة التالية
Icon