فمن ذلك قولهم: إن الذي اجتلب ليكون وصلة إلى وصف المعارف بالجمل، كما اجتلب ذو ليتوصل به إلى الوصف بأسماء الأجناس، يعنون بذلك أنك تقول: مررت بزيد الذي أبوه منطلق، وبالرجل الذي كان عندنا أمس. فتجدك قد توصلت بالذي إلى أن يبين أبنت زيداً من غيره بالجملة التي هي قولك: أبوه منطلق. ولولا الذي لم تصل إلى ذلك، كما أنك تقول: مررت برجل ذي مال: فيتوصل بذي إلى أن يبين الرجل من غيره بالمال. ولولا ذو لم يتأت لك ذلك، إذ لا تستطيع أن تقول: برجل مال. فهذه جملة مفهومة إلا أن تحتها خبايا تحتاج إلى الكشف عنها.
فمن ذلك أن تعلم من أين امتنع أن توصف المعرفة بالجملة، ولم لم يكن حالها في ذلك حال النكرة التي تصفها بها في قولك: مررت برجل أبوه منطلق، ورأيت إنساناً تقاد الجنائب بين يديه. وقالوا: إن السبب في امتناع ذلك أن الجمل نكرات كلها بدلالة أنها تستفاد، وإنما يستفاد المجهول دون المعلوم. قالوا: فلما كانت كذلك كانت وفقاً للنكرة. فجاز وصفها بها ولم يجز أن توصف بها المعرفة إذ لم تكن وفقاً.
والقول المبين في ذلك أن يقال: إنه إنما اجتلب، حتى إذا كان قد عرف رجل بقصة وأمر جرى له، فتخصص بتلك القصة، وبذلك الأمر عند السامع. ثم أريد القصد إليه ذكر الذي. تفسير هذا أنك لا تصل الذي إلا بجملة من الكلام قد سبق من السامع علم بها، وأمر قد عرفه له، نحو أن ترى عنده رجلاً ينشده شعراً فتقول له من غد: ما فعل الرجل الذي كان عندك بالأمس ينشدك الشعر؟ هذا حكم الجملة بعد الذي إذا أنت وصفت به شيئاً. فكان معنى قولهم: إنه اجتلب ليتوصل به إلى وصف المعارف بالجملة، أنه جيء به ليفصل بين أن يراد ذكر الشيء بجملة قد عرفها السامع له، وبين أن لا يكون الأمر كذلك. فإن قلت: قد يؤتى بعد الذي بالجملة غير المعلومة للسامع، وذلك حيث يكون الذي خبراً كقولك: هذا الذي كان عندك بالأمس، وهذا الذي قدم رسولاً من الحضرة. أنت في هذ وشبهه تعلم المخاطب أمراً لم يسبق له به علم، وتفيده في المشار إليه شيئاً لم يكن عنده ولو لم يكن كذلك لم يكن الذي خبراً، إذ كان لا يكون الشيء خبراً حتى يفاد به. فالقول في ذلك: إن الجملة في هذا النحو وإن كان المخاطب لا يعلمها لعين من أشرت إليه، فإنه لا بد من أن يكون قد علمها على الجملة، وحدث بها. فإنك على كل حال لا تقول: هذ الذي قدم رسولاً: لمن لم يعلم أن رسولاً قدم، ولم يبلغه ذلك في جملة ولا تفصيل. وكذ لا تقول: هذا الذي كان عندك أمس، لمن قد نسي أنه كان عنده إنسان، وذهب عن وهمه وإنما تقوله لمن ذاك على ذكر منه. إلا أنه رأى رجلاً يقبل من بعيد، فلا يعلم أنه ذاك ويظنه إنساناً غيره.
وعلى الجملة، فكل عاقل يعلم بون ما بين الخبر بالجملة مع الذي وبينها مع غير الذي. فليس من أحد به طرق إلا وهو لا يشك أن ليس المعنى في قولك: هذا الذي قدم رسولاً من الحضرة كالمعنى إذا قلت: هذا قدم رسولاً من الحضرة، ولا: هذا الذي يسكن في محلة كذا كقولك: هذا يسكن محلة كذا. وليس ذاك إلا أنك في قولك: هذا قدم رسولاً من الحضرة مبتدىء خبراً بأمر لم يبلغ السامع، ولم يبلغه ولم يعلمه أصلاً. وفي قولك: هذا الذي قدم رسولاً معلم في أمر قد بلغه أن هذا صاحبه، فلم يخل إذاً من الذي بدأ به في أمر الجملة مع الذي، من أنه ينبغي أن تكون جملة قد سبق من السامع علم بها. فاعرفه فإنه من المسائل التي من جهلها جهل كثيراً من المعاني، ودخل عليه الغلط في كثير من الأمور. والله الموفق للصواب.
فروق في الحال لها فضل تعلق بالبلاغة
اعلم أن أول فرق في الحال أنها تجيء مفرداً وجملة. والقصد هاهنا إلى الجملة.
وأول ما ينبغي أن يضبط من أمرها أنها تجيء تارة مع الواو، وأخرى بغير الواو فمثال مجيئها الواو قولك: أتاني وعليه ثوب ديباج، ورأيته وعلى كتفه سيف، ولقيت الأمير والجند حواليه، وجاءني زيد وهو متقلد سيفه. ومثال مجيئها بغير واو: جاءني زيد يسعى غلامه بين يديه، وأتاني عمرو يقود فرسه.


الصفحة التالية
Icon