ردها! ثم قال: ائتني بثوب فألقه على هذه الحلل. وقال: أدخل يدك فخذ حلة وأنت لا تراها فأعطهم. قال عبد الملك: فلم أر قسمة أعدل منها. وعمارة هذا هو عمارة بن الوليد بن المغيرة، خطب امرأة من قومه فقالت: لا أتزوجك أو تترك الشراب. فأبى ثم اشتتد وجده بها فحلف لها ألا يشرب. ثم مر بخمار عنده شرب يشربون فدعوه فدخل عليهم، وقد أنفدوا ما عندهم. فنحر لهم ناقته وسقاهم ببرديه. ومكثوا أياماً، ثم خرج فأتى أهله. فلما رأته امرأته قالت: ألم تحلف ألا تشرب؟ فقال:
ولسنا بشرب أم عمرو إذا انتشوا | ثياب الندامى عندهم كالغنائم |
ولكننا يا أم عمرو نديمنا | بمنزلة الريان ليس بعائم |
فإذاً، رب هزل صار أداة في جد، وكلام جرى في باطل، ثم استعين به على حق كما أنه رب شيء خسيس توصل به إلى شريف، بأن ضرب مثلاً فيه، وجعل مثالاً له. قال أبو تمام، من الكامل:
والله قد ضرب الأقل لنوره | مثلاً من المشكاة والنبراس |
فبهذا ونحوه فاعتبر، واجعله حكماً بينك وبين الشعر.
وبعد، فكيف وضع من الشعر عندك، وكسبه المقت منك أنك وجدت فيه الباطل والكذب، وبعض ما لا يحسن، ولم يرفعه في نفسك، ولم يوجب له المحبة من قلبك كان فيه الحق والصدق والحكمة وفصل الخطاب، وأن كان مجنى ثمر العقول والألباب ومجتمع فرق الآداب، والذي قيد على الناس المعاني الشريفة، وأفادهم الفوائد الجليلة، وترسل بين الماضي والغابر، ينقل مكارم الأخلاق إلى الولد عن الوالد، ويؤدي ودائع شرف عن الغائب إلى الشاهد، حتى ترى به آثار الماضين، مخلدة في الباقين، وعقول الأولين مرددة في الآخرين، وترى لكل من رام الآدب، وابتغى الشرف، وطلب محاسن القول والفعل، مناراً مرفوعاً، وعلماً منصوباً، وهادياً مرشداً، ومعلماً مسدداً. وتجد فيه للنائي عن طلب المآثر، والزاهد في اكتساب المحامد، داعياً ومحرضاً، وباعثاً ومحضضاً، ومذكراً ومعرفاً، وواعظاً ومثقفاً.
فلو كنت ممن ينصف كان في بعض ذلك ما يغير هذا الرأي منك، وما يحدوك على رواية الشعر وطلبه. ويمنعك أن تعيبه أو تعيب به. ولكنك أبيت إلا ظناً سبق إليك، وإلا بادئ رأي عن لك، فأقفلت عليه قلبك، وسددت عما سواه سمعك. فعي الناصح بك، وعسر على الصديق والخليط تنبيهك. نعم وكيف رويت: الأن يمتلىء جوف أحدكم قيحاً فيريه خير له من أن يمتلىء شعراً. ولهجت له، وتركت قوله صلى الله عليه وسلم: " إن من شعر لحكماً وإن من البيان لسحراً ". وكيف نسيت أمره ﷺ بقول الشعر ووعده عليه الجنة، وقوله لحسان " قل وروح القدس معك وسماعه له، واستنشاده إياه وعمله صلى الله عليه وسلم! به، واستحسانه له، وارتياحه عند سماعه؟ أما أمره به فمن المعلوم ضرورة، وكذلك سماعه إياه، فقد كان حسان وعبد الله بن رواحة وكعب بن زهير يمدحونه، ويسمع منهم ويصغي إليهم، ويأمرهم بالرد على المشركين فيقولون في ذلك، ويعرضون عليه. وكان عليه السلام يذكر لهم بعض ذلك كالذي روي من أنه ﷺ قال لكعب " ما نسي ربك وما كان ربك نسياً شعراً قلته ". قال: وماهو يا رسول الله قال: " أنشده يا أبا بكر ". فأنشد أبو بكر رضوان الله عليه، من الكامل،:
زعمت سخينة أن ستغلب | ربها وليغلبن مغالب الغلاب |
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه | ثمال اليتامى عصمة للأرامل |
يطيف به الهلاك من آل هاشم | فهم عنده في نعمة وفواضل |