واعلم أنهم لم يعيبوا تقديم الكلام بمعناه من حيث جهلوا أن المعنى إذا كان أدباً وحكمة، وكان غريباً نادراً، فهو أشرف مما ليس كذلك، بل عابوه من حيث كان من حكم من قضى في جنس من الأجناس بفضل أو نقص أن لا يعتبر في قضيته تلك إلا الأوصاف التي تخص ذلك الجنس، وترجع إلى حقيقته. وأن لا ينظر فيها إلى جنس آخر وإن كان الأول بسبيل، أو متصلاً به اتصال ما لا ينفك منه. ومعلوم أن سبيل الكلام سبيل التصوير والصياغة، وأن سبيل المعنى الذي يعبر عنه سبيل الشيء الذي يقع التصوير والصوغ فيه كالفضة والذهب، يصاغ منهما خاتم أو سوار. فكما أن محالاً إذا أنت أردت النظر في صوغ الخاتم وفي جودة العمل ورداءته أن ينظر إلى الفضة الحاملة تلك الصورة أو الذهب الذي وقع فيه العمل، وتلك الصنعة كذلك محال إذا أردت أن تعرف مكان الفصل والمزية الكلام أن تنظر في مجرد معناه. وكما أنا لو فضلنا خاتماً على خاتم بأن تكون فضة أجود، أو فصه أنفس لم يكن ذلك تفضيلاً له من حيث هو خاتم. كذلك ينبغي إذا فضلنا على بيت من أجل معناه أن لا يكون ذلك تفضيلاً له من حيث هو شعر وكلام، وهذا قاطع فاعرفه.
واعلم أنك لست تنظر في كتاب صنف في شأن البلاغة، وكلام جاء عن القدماء إلا وجدته، يدل على فساد هذا المذهب. ورأيتهم يتشددون في إنكاره وعيبه والعيب به وإذا نظرت في كتب الجاحظ وجدته يبلغ في ذلك كل مبلغ، ويتشدد غاية التشدد. وقد انتهى في ذلك إلى أن جعل العلم بالمعنى مشتركاً، وسوى فيه بين الخاصة والعامة، فقال: ورأيت ناساً يبهرجون أشعار المولدين، ويستسقطون من رواها. ولم أر ذلك قط إلا في رواية غير بصير بجوهر ما يروي. ولو كان له بصر لعرف موضع الجيد ممن كان، وفي أي زمان كان. وأنا سمعت أبا عمرو الشيباني وقد بلغ من استجادته لهذين البيتين، ونحن في المسجد الجامع يوم الجمعة أن كلف رجلاً حتى أحضره قرطاساً ودواة حتى كتبهما. قال الجاحظ: وأنا أزعم أن صاحب هذين البيتين لا يقول شعراً أبداً، ولولا أن أدخل في الحكومة بعض الغيب لزعمت أن ابنه لا يقول الشعر أيضاً. وهما قوله، من السريع:
لا تحسبن الموت موت البلى... وإنما الموت سؤال الرجال
كلاهما موت ولكن ذا... أشد من ذاك على كل حال
ثم قال: وذهب الشيخ إلى استحسان المعاني، والمعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العجمي والعربي، والقروي، والبدوي. وإنما الشأن في إقامة الوزن، وتخير اللفظ، وسهولة المخرج، وصحة الطبع، وكثرة الماء، وجودة السبك. وإنما الشعر صياغة وضرب من التصوير. فقد تراه كيف أسقط أمر المعاني، وأبى أن يجب لها فضل. فقال: وهي مطروحة في الطريق. ثم قال: وأنا أزعم أن صاحب هذين البيتين لا يقول شعراً أبداً فأعلمك أن فضل الشعر بلفظه لا بمعناه، وأنه إذا عدم الحسن في لفظه ونظمه لم يستحق هذا الاسم بالحقيقة. وأعاد طرفاً من هذا الحديث في البيان فقال: ولقد رأيت أبا عمرو الشيباني يكتب أشعاراً من أفواه جلسائه ليدخلها في باب التحفظ والتذكر. وربما خيل إلي أن أبناء أولئك الشعراء لا يستطيعون أبداً أن يقولوا شعراً جيداً لمكان أعراقهم من أولئك الآباء. ثم قال: ولولا أن أكون عياباً ثم للعلماء خاصة لصورت لك بعض ما سمعت من أبي عبيدة، ومن هو أبعد في وهمك من أبي عبيدة.
واعلم أنهم لم يبلغوا في إنكار هذا المذهب ما بلغوه إلا لأن الخطأ فيه عظيم، وأنه يفضي بصاحبه إلى أن ينكر الإعجاز، ويبطل التحدي من حيث لا يشعر. وذلك أنه إن كان العمل على ما يذهبون إليه من أن لا يجب فضل ومزية إلا من جانب المعنى، وحتى يكون قد قال حكمة أو أدباً واستخرج معنى غريباً أو تشبيهاً نادراً فقد وجب اطراح جميع ما قاله الناس في الفصاحة والبلاغة وفي شأن النظم والتأليف. وبطل أن يجب بالنظم فضل، وأن تدخله المزية وأن تتفاوت فيه المنازل. وإذا بطل ذلك فقد بطل أن يكون في الكلام معجز وصار الأمر إلى ما يقوله اليهود ومن قال بمثل مقالهم في هذا الباب، ودخل في مثل تلك الجهالات. ونعوذ بالله من العمى بعد الإبصار.
اللفظ والنظم


الصفحة التالية
Icon