فاعلم أنهم يضعون كلاماً قد يفخمون به أمر اللفظ، ويجعلون المعنى أعطاك المتكلم أغراضه فيه من طريق معنى المعنى، فكنى وعرض ومثل واستعار، ثم أحسن فى ذلك كله وأصاب، ووضع كل شيء منه في موضعه، وأصاب به شاكلته، وعمد فيما كنى به وشبه ومثل لما حسن مأخذه ودق مسلكه ولطفت إشارته. وأن المعرض وما في معناه ليس هو اللفظ المنطوق به، ولكن معنى اللفظ الذي دللت به على المعنى الثاني كمعنى قوله، من الوافر:
................ فإني... جبان الكلب مهزول الفصيل
الذي هو دليل على أنه مضياف، فالمعاني الأول المفهومة من أنفس الألفاظ هي المعارض، والوشي، والحلي، وأشباه ذلك. والمعاني الثواني التي يومأ إليها بتلك المعاني هي التي تكسى تلك المعارض، وتزين بذلك الوشي والحلي. وذلك إذا جعلوا المعنى يتصورمن أجل اللفظ بصورة، ويبدو في هيئة ويتشكل بشكل يرجع المعنى في ذلك كله إلى الدلالات المعنوية، ولا يصلح شيء منه حيث الكلام على ظاهره، وحيث لا يكون كناية وتمثيل به ولا استعارة، ولا استعانة في الجملة بمعنى على معنى، وتكون الدلالة على الغرض من مجرد اللفظ، فلو أن قائلاً قال: رأيت الأسد، وقال آخر: لقيت الليث، لم يجز أن يقال في الثاني: إنه صور المعنى في غير صورته الأولى، ولا أن يقال: أبرزه في معرض سوى معرضه، ولا شيئاً من هذا الجنس. وجملة الأمر أن صور المعاني لا تتغير بنقلها من لفظ إلى لفظ حتى يكون هناك اتساع ومجاز، وحتى لا يراد من الألفاظ ظواهر ما وضعت له في اللغة، ولكن يشار بمعانيها إلى معان أخر.
واعلم أن هذا كذلك ما دام النظم واحداً، فأما إذا تغير النظم فلا بد حينئذ من أن يتغير المعنى على ما مضى من البيان في مسائل التقديم والتأخير، وعلى ما رأيت في المسألة التي مضت الآن، أعني قولك: إن زيداً كالأسد، وكأن زيداً الأسد ذاك لأنه لم يتغير من اللفظ شيء، وإنما تغير النظم فقط. وأما فتحك أن عند تقديم الكاف، وكانت مكسورة فلا اعتداد بها لأن معنى الكسر باق بحاله.
واعلم أن السبب في أن أحالوا في أشباه هذه المحاسن التي ذكرتها لك على اللفظ أنها ليست بأنفس المعاني، بل هي زيادات فيها وخصائص. ألا ترى أن ليست المزية التي تجدها لقولك: كأن زيداً الأسد، على قولك: زيد كالأسد بشيء خارج عن التشبيه الذي هو أصل المعنى، وإنما هو زيادة فيه وفي حكم الخصوصية في الشكل، نحو أن يصاغ خاتم على وجه، وآخر على وجه آخر، تجمعهما صورة الخاتم ويفترقان بخاصة وشيء يعلم إلا أنه لا يعلم منفرداً. ولما كان الأمر كذلك لم يمكنهم أن يطلقوا اسم المعاني على هذه الخصائص إذا كان لا يفترق الحال حينئذ بين أصل المعنى، وبين ما هو زيادة المعنى، وكيفية له، وخصوصية فيه. فلما امتنع ذلك توصلو! إلى الدلالة عليها بأن وصفوا اللفظ في ذلك بأوصاف يعلم أنها لا تكون أوصافاً له من حيث هو لفظ كنحو وصفهم له بأنه لفظ شريف، وأنه قد زان المعنى، وأن له ديباجة، وأن عليه طلاوة، وأن المعنى منه مثل الوشي، وأنه عليه كالحلي، إلى أشباه ذلك مما يعلم ضرورة أنه لا يعنى بمثله الصوت والحرف، ثم إنه لما جرت به العادة، واستمر عليه العرف وصار الناس يقولون: اللفظ واللفظ لز ذلك بأنفس أقوام باباً من الفساد، وخامرهم منه شيء لست احسن وصفه.
دلالة المعنى على المعنى
ومن الصفات التي تجدهم يجرونها على اللفظ، ثم لا تعترضك شبهة، ولا يكون منك توقف في أنها ليست له ولكن لمعناه قولهم: لا يكون الكلام يستحق اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظه ولفظه معناه. ولا يكون لفظه أسبق إلى سمعك من معناه إلى قلبك وقولهم: يدخل في الأذن بلا إذن، فهذا مما لا يشك العاقل في أنه يرجع إلى دلالة المعنى على المعنى، وأنه لا يتصور أن يراد به دلالة اللفظ على معناه الذي وضع له في اللغة، ذاك لأنة لا يخلو السامع من أن يكون عالماً باللغة، وبمعاني الألفاظ التي يسمعها، أو يكو جاهلاً بذلك، فإن كان عالماً لم يتصور أن يتفاوت حال الألفاظ معه، فيكون معنى لفظ أسرع إلى قلبه من معنى لفظ آخر، وإن كان جاهلاً كان ذلك في وصفه أبعد.