وجملة الأمر أنه إنما يتصور أن يكون لمعنى أسرع فهماً منه لمعنى آخر، إذا كان ذلك مما يدرك بالفكر، وإذا كان مما يتجدد له العلم به عند سمعه للكلام. وذلك محال في دلالات الألفاظ اللغوية، لأن طريق معرفتها التوقيف، والتقدم بالتعريف.
وإذا كان ذلك كذلك علم علم الضرورة أن مصرف ذلك إلى دلالات المعاني علم المعاني، وأنهم أرادوا أن من شرط البلاغة أن يكون المعنى الأول الذي تجعله دليلاً على المعنى الثاني، ووسيطاً بينك وبينه، متمكناً في دلالته، مستقلاً بوساطته، يسفر بينك وبينه أحسن سفارة، ويشير لك إليه أبين إشارة، حتى يخيل إليك أنك فهمته من حاق اللفظ وذلك لقلة الكلفة فيه عليك، وسرعة وصوله إليك، فكان من الكناية مثل قوله، من المنسرح:
لا أمتع العوذ بالفصال ولا | أبتاع إلا قريبة الأجل |
ومن الاستعارة مثل قوله، من الطويل:وصدر أراح الليل عازب همه | تضاعف فيه الحزن من كل جانب |
ومن التمثيل مثل قوله، من المديد:لا أذود الطير عن شجر | قد بلوت المر من ثمره |
وإن أردت أن تعرف ما حاله بالضد من هذا فكان منقوص القوة في تأدية ما أريد منه لأنه يعترضه ما يمنعه أن يقضي حق السفارة فيما بينك وبين معناك، ويوضح تمام الإيضاح عن مغزاك، فانظر إلى قول العباس بن الأحنف، من الطويل:
سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا | وتسكب عيناي الدموع لتجمدا |
بدأ فدل بسكب الدموع على ما يوجبه الفراق من الحزن والكمد، فأحسن وأصاب، لأن من شأن البكاء أبداً أن يكون أمارة للحزن، وأن يجعل دلالة عليه، وكناية عنه كقولهم: أبكاني وأضحكني، على معنى ساءني وسرني وكما قال، من السريع:
أبكاني الدهر ويا ربما | أضحكني الدهر بما يرضي |
ثم ساق هذا القياس إلى نقيضه، فالتمس أن يدل على ما يوجبه دوام التلاقي من السرور بقوله لتجمدا. وظن أن الجمود يبلغ له في إفادة المسرة والسلامة من الحزن، ما بلغ سكب الدمع في الدلالة على الكآبة والوقوع في الحزن. ونظر إلى أن الجمود خلو العين من البكاء، وانتفاء الدموع عنها. وأنه إذا قال: لتجمدا فكأنه قال: أحزن اليوم لئلا أحزن غداً، وتبكي عيناي جهدهما لئلا تبكيا أبداً. وغلط فيما ظن، وذاك أن الجمود هو أن لا تبكي العين مع أن الحال حال بكاء. ومع أن العين يراد منها أن تبكي، ويشتكى من أن لا تبكي، ولذلك لا ترى أحداً يذكر عينه بالجمود إلا وهو يشكوها ويذمها، وينسبها إلى البخل، ويعد امتناعها من البكاء تركاً لمعونة صاحبها على ما به من الهم، ألا ترى إلى قوله، من الطويل:
ألا إن عيناً لم تجد يوم واسط | عليك بجاري دمعها لجمود |
فأتى بالجمود تأكيداً لنفي الجود، ومحال أن يجعلها لا تجود بالبكاء. وليس هناك التماس بكاء، لأن الجود والبخل يقتضيان مطلوباً يبذل أو يمنع. ولو كان الجمود يصلح لأن يراد به السلامة من البكاء، ويصح أن يدل به على أن الحال حال مسرة وحبور لجاز أن يدعى به للرجل، فيقال: لا زالت عينك جامدة، كما يقال: لا أبكى الله عينك. وذاك مما لا يشك في بطلانه. وعلى ذلك قول أهل اللغة: عين جمود، لا ماء فيها، وسنة جماد، لا مطرفيها، وناقة جماد، لا لبن فيها. وكما لا تجعل السنة والناقة جماداً إلا على معنى أن السنة بخيلة بالقطر، والناقة لا تسخو بالدر. كذلك حكم العين لا تجعل جموداً إلا وهناك ما يقتضي إرادة البكاء منها، وما يجعلها إذا بكت محسنة موصوفة بأن قد جادت وسخت. وإذا لم تبك مسيئة موصوفة بأن قد ضنت وبخلت.
فإن قيل: إنه أراد أن يقول: إني اليوم أتجرع غصص الفراق، وأحمل نفسي على على مره، وأحتمل ما يؤديني إليه من حزن يفيض الدموع من عيني ويسكبها، لكي أتسبب بذلك إلى وصل يدوم، ومسرة تتصل، حتى لا أعرف بعد ذلك الحزن أصلاً، ولا تعرف عيني البكاء، وتصير في أن لا ترى باكية أبداً كالجمود التي لا يكون لها دمع، فإن ذلك لا يستقيم ويستتب لأنه يوقعه في التناقض ويجعله كأنه قال: أحتمل البكاء لهذا الفراق عاجلاً لأصير في الآجل بدوام الوصل، واتصال السرور في صورة من يريد من عينه أن تبكي، ثم لا تبكي لأنها خلقت جامدة لا ماء فيها. وذلك من التهافت والاضطراب بحيث لا تنجع الحيلة فيه.