وجملة الأمر أنا لا نعلم أحداً جعل جمود العين دليل سرور، وأمارة غبطة وكناية عن أن الحال حال فرح. فهذا مثال فيما هو بالضد مما شرطوا من أن لا يكون لفظه أسبق إلى سمعك من معناه إلى قلبك، لأنك ترى اللفظ يصل إلى سمعك، وتحتاج إلى أن تخب وتوضع في طلب المعنى. ويجري لك هذا الشرح والتفسير في النظم كما جرى في اللفظ، لأنه إذا كان النظم سوياً، والتأليف مستقيماً، كان وصول المعنى إلى قلبك تلو وصول اللفظ إلى سمعك. وإذا كان على خلاف ما ينبغي وصل اللفظ إلى السمع، وبقيت في المعنى تطلبه وتتعب فيه. وإذا أفرط الأمر في ذلك صار إلى التعقيد الذي قالوا: إنه يستهلك المعنى.
واعلم أن لم تضق العبارة، ولم يقصر اللفظ، ولم ينغلق الكلام في هذا الباب إلا لأنه قد تناهى في الغموض والخفاء إلى أقصى الغايات، وأنك لا ترى أغرب مذهباً وأعجب طريقاً، وأحرى بأن تضطرب فيه الآراء منه. وما قولك في شيء قد بلغ من أمره أن يدعى على كبار العلماء بأنهم لم يعلموه، ولم يفطنوا له. فقد ترى أن البحتري قال حين سئلء مسلم وأبي نواس: أيهما أشعر؟ فقال: أبو نواس. فقيل: فإن أبا العباس ثعلباً لا يوافقك على هذا. فقال: ليس هذا من شأن ثعلب وذويه من المتعاطين لعلم الشعر دون عمله، إنما يعلم ذلك من دفع في مسلك طريق الشعر إلى مضايقه، وانتهى إلى ضروراته.
ثم لم ينفك العالمون به، والذين هم من أهله من دخول الشبهة فيه عليهم، ومن اعتراض السهو والغلط لهم. روي عن الأصمعي أنه قال: كنت أسير مع أبي عمرو بن العلاء وخلف الأحمر. وكانا يأتيان بشاراً فيسلمان عليه بغاية الإعظام، ثم يقولان: يا أبا معاذ ما أحدثت؟ فيخبرهما وينشدهما، ويسألانه ويكتبان عنه متواضعين له، حتى يأتي وقت الزوال، ثم ينصرفان. وأتياه يوماً فقالا: ما هذه القصيدة التي أحدثتها في سلم بن قتيبة؟ قال: هي التي بلغتكم. قالوا: بلغنا أنك أكثرت فيها من الغريب. قال: نعم بلغني أن سلم بن قتيبة يتباصر بالغريب، فأحببت أن أورد عليه ما لا يعرف. قالوا: فأنشدناها يا أبا معاذ. فأنشدهما، من الخفيف:

بكرا صاحبي قبل الهجير إن ذاك النجاح في التبكير
حتى فرغ منها، فقال له خلف: لو قلت يا أبا معاذ مكان إن ذاك النجاح في التبكير،
بكرا فالنجاح في التبكير
كان أحسن. فقال بشار: إنما بنيتها أعرابية وحشية، فقلت: إن ذاك النجاح في التبكير، كما يقول الأعراب البدويون. ولو قلت: بكرا فالنجاح كان هذا من كلام المولدين، ولا يشبه ذاك الكلام، ولا يدخل في معنى القصيدة. قال: فقام خلف فقبل بشاراً، بين عينيه. فهل كان هذا القول من خلف، والنقد على بشار إلا للطف المعنى في ذلك وخفائه؟ واعلم أن من شأن إن إذا جاءت على هذا الوجه أن تغني غناء الفاء العاطفة مثلاً، وأن تفيد من ربط الجملة بما قبلها أمراً عجيباً. فأنت ترى الكلام بها مستأنفاً غير مستأنف، مقطوعاً موصولاً معاً. أفلا ترى أنك لو أسقطت إن من قوله: إن ذاك النجاح في التبكير، لم تر الكلام يلتئم؟ ولرأيت الجملة الثانية لا تتصل بالأولى، ولا تكون منها بسبيل حتى تجيء بالفاء فتقول: بكرا صاحبي قبل الهجير، فذاك النجاح في التبكير؟ ومثله قول بعض العرب، من الرجز:
فغنها وهي لك الفداء إن غناء الإبل الحداء
فانظر إلى قوله: إن غناء الإبل الحداء، وإلى ملاءمته الكلام قبله، وحسن تشبثه به، وإلى حسن تعطف الكلام الأول عليه. ثم انظر إذا تركت إن فقلت: فغنها وهي لك الفداء، غناء الإبل الحداء، كيف تكون الصورة؟ وكيف ينبو أحد الكلامين عن الآخر؟ وكيف يشئم هذا ويعرق ذاك حتى لا تجد حيلة في ائتلافهما، حتى تجتلب لهما الفاء فتقول: فغنها وهي لك الفداء، فغناء الإبل الحداء؟ ثم تعلم أن ليست الألفة بينهما من جنس ما كان، وأن قد ذهبت الأنسة التي كنت تجد، والحسن الذي كنت ترى. وروي عن عنبسة أنه قال: قدم ذو الرمة الكوفة، فوقف ينشد الناس بالكناسة قصيدته الحائية التي منها، من الطويل:


الصفحة التالية
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2025
Icon
هي البرء والأسقام والهم والمنى وموت الهوى في القلب مني المبرح
وكان الهوى بالنأي يمحى فيمحي وحبك عندي يستجد ويربح
إذا غير النأي المحبين لم يكد رسيس الهوى من حب مية يبرح