قال: فلما انتهى إلى هذا البيت ناداه ابن شبرمة: يا غيلان: أراه قد برح! قال فشنق ناقته، وجعل يتأخر بها ويتفكر ثم قال:
إذا غير النأي المحبين لم أجد... رسيس الهوى من حب مية يبرح
قال: فلما انصرفت حدثت أبي قال: أخطأ ابن شبرمة حين أنكر على ذي الرمة، وأخطأ ذو الرمة حين غير شعره لقول ابن شبرمة، إنما هذا كقول الله تعالى: " ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ". وإنما هو لم يرها، ولم يكد.
واعلم أن سبب الشبهة في ذلك أنه قد جرى في العرف أن يقال: ما كاد يفعل، ولم يكد يفعل: في فعل قد فعل على معنى أنه لم يفعل إلا بعد الجهد، وبعد أن كان بعيداً في الظن أن يفعله كقوله تعالى: " فذبحوها وما كادوا يفعلون ". فلما كان مجيء النفي في كاد على هذا السبيل توهم ابن شبرمة أنه إذا قال: لم يكد رسيس الهوى من حب مية يبرح، فقد زعم أن الهوى قد برح، ووقع لذي الرمة مثل هذا الظن. وليس الأمر كالذي ظناه، فإن الذي يقتضيه اللفظ إذا قيل: لم يكد يفعل، وما كاد يفعل، أن يكون المراد أن الفعل لم يكن من أصله، ولا قارب أن يكون، ولا ظن أنه يكون. وكيف بالشك في ذلك قد علمنا أن كاد موضوع لأن يدل على شدة قرب الفعل من الوقوع، وعلى أنه قد شارف الوجود. وإذا كان كذلك كان محالاً أن يوجب نفيه وجود الفعل، لأنه يؤدي إلى أن يوجب نفي مقاربة الفعل الوجود، وأن يكون قولك: ما قارب أن يفعل: مقتضياً على البت أنه قد فعل.
وإذ قد ثبت ذلك فمن سبيلك أن تنظر، فمتى لم يكن المعنى على أنه قد كان هناك صورة تقتضي أن لا يكون الفعل، وحال يبعد معها أن يكون، ثم تغير الأمر كالذي تراه في قوله تعالى: " فذبحوها وما كادوا يفعلون " فليس إلا أن تلزم الظاهر، وتجعل المعنى على أنك تزعم أن الفعل لم يقارب أن يكون، فضلاً عن أن يكون، فالمعنى إذا في بيت ذي الرمة: على أن الهوى من رسوخه في القلب، وثبوته فيه، وغلبته على طباعه، بحيث لا يتوهم عليه البراح، وأن ذلك لا يقارب منه أن يكون فضلاً عن أن يكون، كما تقول: إذا سلا المحبون، وفتروا في محبتهم، لم يقع لي وهم، ولم يجر مني على بال أنه يجوز على ما يشبه السلوة، وما يعد فترة فضلاً عن أن يوجد ذلك مني، وأصير إليه. وينبغي أن تعلم أنهم إنما قالوا في التفسير: لم يرها ولم يكد، فبدؤوا فنفوا الرؤية ثم عطفوا لم يكد، عليه ليعلموك أن ليس سبيل لم يكد هاهنا سبيل ما كادوا في قوله تعالى: " فذبحوها وما كادوا يفعلون " في أنه نفي معقب على إثبات، وأن ليس المعنى على أن رؤية كانت من بعد أن كادت لا تكون، ولكن المعنى على أن رؤيتها لا تقارب أن تكون فضلاً عن أن تكون. لو كان لم يكد يوجب وجود الفعل لكان هذا الكلام منهم محالاً جارياً مجرى أن تقول: لم يرها، ورآها. فاعرفه.
وهاهنا نكتة، وهي أن لم يكد في الآية والبيت واقع في جواب إذا، والماضي إذا وقع. في جواب الشرط على هذا السبيل كان مستقبلاً في المعنى، فإذا قلت: إذا خرجت لم خرج، كنت قد نفيت خروجاً فيما يستقبل. وإذا كان الامر كذلك استحال أن يكون المعنى في البيت أو الآية على أن الفعل قد كان، لأنه يؤدي إلى أن يجيء بلم أفعل ماضياً صريحاً في جواب الشرط، فتقول: إذا خرجت لم أخرح أمس، وذلك محال. ومما يتضح فيه هذ المعنى قول الشاعر، من المتقارب:
ديار لجهمة بالمنحنى... سقاهن مرتجز باكر
وراح عليهن ذو هيدب... ضعيف القوى ماؤه زاخر
إذا رام نهضاً بها لم يكد... كذي الساق أخطأها الجابر
وأعود إلى الغرض، فإذا بلغ من دقة هذه المعاني أن يشتبه الأمر فيها على مثل خلف الأحمر وابن شبرمة، وحتى يشتبه على ذي الرمة في صواب قاله، فيرى أنه غير صواب، فما ظنك بغيرهم، وما تعجبك من أن يكثر التخليط فيه. ومن العجب في هذ المعنى قول أبي النجم، من الرجز:
قدأصبحت أم الخيار تدعي... علي ذنباً كله لم أصنع