قد حمله الجميع على أنه أدخل نفسه من رفع كل في شيء، إنما يجوز عند الضرورة من غير أن كانت به ضرورة. قالوا: لأنه ليس في نصب كل ما يكسر له وزناً يمنعه من معنى أراده. وإذا تأملت وجدته لم يرتكبه، ولم يحمل نفسه عليه إلا لحاجة له إلى ذلك، وإلا لأنه رأى النصب يمنعه ما يريد. وذاك أنه أراد أنها تدعي عليه ذنباً لم يصنع منه شيئاً البتة، لا قليلاً ولا كثيراً ولا بعضاً ولا كلاً. والنصب يمنع من هذا المعنى، ويقتضي أن يكون قد أتى من الذنب الذي ادعته بعضه. وذلك انا إذا تأملنا وجدنا إعمال الفعل في كل، والفعل منفي، لا يصلح أن يكون إلا حيث يراد أن بعضاً كان، وبعضاً لم يكن.
تقول: لم ألق كل القوم، ولم آخذ كل الدراهم، فيكون المعنى أنك لقيت بعضاً من القوم، ولم تلق الجميع. وأخذت بعضاً من الدراهم، وتركت الباقي. ولا يكون أن تريد أنك لم تلق واحداً من القوم، ولم تأخذ شيئاً من الدراهم. وتعرف ذلك بأن تنظر إلى كل الإثبات، وتتعرف فائدته فيه.
وإذا نظرت وجدته قد اجتلب لأن يفيد الشمول في الفعل الذي تسنده إلى الجملة أو توقعه بها. تفسير ذلك أنك إنما قلت: جاءني القوم كلهم، لأنك لو قلت: جاءني القوم، وسكت، لكان يجوز أن يتوهم السامع أنه قد تخلف عنك بعضهم، إلأ أنك لم تعتد بهم، أو أنك جعلت الفعل إذا وقع من بعض القوم، فكأنما وقع من الجميع لكونهم في حكم الشخص الواحد كما يقال للقبيلة: فعلتم وصنعتم، يراد فعل قد كان من بعضهم، أو واحد منهم. وهكذا الحكم أبداً. فإذا قلت: رأيت القوم كلهم ومررت بالقوم كلهم، كنت قد جئت بكل لئلا يتوهم أنه قد بقي عليك من لم تره، ولم تمر به. ينبغي أن يعلم أنا لا نعني لنا: يفيد الشمول أن سبيله في ذلك سبيل الشيء يوجب المعنى من أصله، وأنه لولا مكان كل لما عقل الشمول، ولم يكن فيما سبق من اللفظ دليل عليه. كيف ولو كان كذلك يكن يسمى تأكيداً. فالمعنى أنه يمنع أن يكون اللفظ المقتضي الشمول مستعملاً على خلاف ظاهره، ومتجوزاً فيه.
وإذ قد عرفت ذلك فها هنا أصل، وهو أنه من حكم النفي إذا دخل على كلام، ثم كان في ذلك الكلام تقييد على وجه من الوجوه أن يتوجه إلى ذلك التقييد وأن يقع له خصوصاً. تفسير ذلك أنك إذا قلت: أتاني القوم مجتمعين. فقال قائل: لم يأتك القوم مجتمعين. كان نفيه ذلك متوجهاً إلى الاجتماع الذي هو تقييد في الإتيان دون الإتيان نفسه، حتى إنه إن أراد أن ينفي الإتيان من أصله كان من سبيله أن يقول: إنهم لم يأتوك أصلاً، فما معنى قولك مجتمعين، هذا مما لا يشك فيه عاقل. وإذا كان هذا حكم النفي دخل على كلام فيه تقييد فإن التأكيد ضرب من التقييد، فمتى نفيت كلاماً فيه تأكيد فإن نفيك يتوجه إلى التأكيد خصوصاً، ويقع له.
فإذا قلت: لم أر القوم كلهم، أو لم يأتني القوم كلهم، أو لم يأتني كل القوم، أو لم أر كل القوم، كنت عمدت بنفيك إلى معنى كل خاصة، وكان حكمه حكم مجتمعين لم يأتني القوم كلهم، أو لم يأتني كل القوم، أن يكون قد أتاك بعضهم. كما يجب إذا قلت: لم يأتني القوم مجتمعين أن يكونوا قد أتوك أشتاتاً. وكما يستحيل أن تقول: لم يأتني القوم مجتمعين، وأنت تريد أنهم لم يأتوك أصلاً لا مجتمعين ولا منفردين. كذلك محال أن تقول. لم يأتني القوم كلهم وأنت تريد أنهم لم يأتوك أصلاً فاعرفه.
واعلم أنك إذا نظرت وجدت الإثبات كالنفي فيما ذكرت لك، ووجدت النفي قد احتذاه فيه وتبعه، وذلك أنك إذا قلت: جاءني القوم كلهم، كان كل فائدة خبرك. هذا والذي يتوجه إليه إثباتك بدلالة أن المعنى على أن الشك لم يقع في نفس المجيء، أنه كان من القوم على الجملة، وإنما وقع في شموله الكل، وذلك الذي عناك أمره في كلامك. وجملة الأمر أنه ما من كلام كان فيه أمر زائد على مجرد إثبات المعنى للشيء، إلا كان الغرض الخاص من الكلام، والذي يقصد إليه ويزجى القول فيه. فإذا قلت: جاءني زيد راكباً، وما جاءني زيد راكباً كنت قد وضعت كلامك لأن تثبت مجيئه. راكباً، أو تنفي ذلك لا لأن تثبت المجيء، وتنفيه مطلقاً. هذا ما لا سبيل إلى الشك فيه.


الصفحة التالية
Icon