واعلم أنه يلزم من شك في هذا، فتوهم أنه يجوز أن تقول: لم أر القوم كلهم، على معنى أنك لم تر واحداً منهم، أن يجري النهي هذا المجرى فتقول: لا تضرب القوم كلهم على معنى لا تضرب واحداً منهم، وأن تقول: لا تضرب الرجلين كليهما: على معنى لا تضرب واحداً منهما. فإذا قال ذلك لزمه أن يحيل قول الناس: لا تضربهما معاً، ولكن اضرب أحدهما. ولا تأخذهما جميعاً، ولكن واحداً منهما، وكفى بذلك فساداً.
وإذ قد بان لك من حال النصب أنه يقتضي أن يكون المعنى على أنه قد صنع من الذنب بعضاً، وترك بعضاً، فاعلم أن الرقع على خلاف ذلك، وأنه يقتضي نفي أن يكون قد صنع منه شيئاً، وأتى منه قليلاً أو كثيراً. وأنك إذا قلت: كلهم لا يأتيك، وكل ذلك لا يكون، وكل هذا لا يحسن، كنت نفيت أن يأتيه واحد منهم، وأبيت أن يكون أو يحسن شيء مما أشرت إليه. ومما يشهد لك بذلك من الشعر قوله، من الطويل:

فكيف وكل ليس يعدو حمامه ولا لامرىء عما قضى الله مزحل
المعنى على نفي أن يعدو أحد من الناس حمامه بلا شبهة. ولو قلت: فكيف وليس يعدو كل حمامه، فأخرت كلا لأفسدت المعنى وصرت كأنك تقول: إن من الناس من يسلم من الحمام، ويبقى خالداً لا يموت. ومثله قول دعبل، من الطويل،
فو الله ما أدري بأي سهامها رمتني؟ وكل عندنا ليس بالمكدي
أبالجيد أم مجرى الوشاح وإنني، لأتهم عينيها مع الفاحم الجعد
المعنى على نفي أن يكون في سهامها مكد على وجه من الوجوه. ومن البين في ذلك ما جاء في حديث في اليدين قال للنبي صلى الله عليه وسلم: اقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله. فقال صلى الله عليه وسلم: " كل ذلك لم يكن ". فقال ذو اليدين: بعض ذلك قد كان المعنى: لا محالة على نفي الأمرين جميعاً، وعلى أنه عليه السلام أراد أنه لم يكن واحد منهما لا القصر ولا النسيان. ولو قيل: لم يكن كل ذلك، لكان المعنى أنه قد كان بعضه.
واعلم أنه لما كان المعنى مع إعمال الفعل المنفي في كل نحو: لم يأتني القوم كلهم، ولم أر القوم كلهم. على أن الفعل قد كان من البعض ووقع على البعض، قلت: لم يأتني القوم كلهم، ولكن أتاني بعضهم. ولم أر القوم كلهم، ولكن رأيت بعضهم، فأثبت بعد ما نفيت. ولا يكون ذلك مع رفع كل بالابتداء. فلو قلت: كلهم لم يأتني، ولكن أتاني بعضهم. وكل ذلك لم يكن، ولكن كان بعض ذلك، لم يجز لأنه يؤدي إلى التناقض وهو أن تقول: لم يأتني واحد منهم، ولكن أتاني بعضهم.
واعلم أنه ليس التأثير لما ذكرنا من إعمال الفعل، وترك إعماله على الحقيقة. وإنما التأثير لأمر آخر، وهو دخول كل في حيز النفي، وأن لا يدخل فيه. وإنما علقنا الحكم في البيت وسائر ما مضى بإعمال الفعل، وترك إعماله من حيث كان إعماله فيه يقتضي دخوله في حيز النفي، وترك إعماله يوجب خروجه منه من حيث كان الحرف النافي في البيت حرفاً لا ينفصل عن الفعل وهو لم، لا أن كونه معمولاً للفعل وغير معمول يقتضي ما رأيت من الفرق. أفلا ترى أنك لو جئت بحرف نفي يتصور انفصاله عن الفعل لرأيت المعنى في كل مع ترك إعمال الفعل مثله مع إعماله، ومثال ذلك قوله، من البسيط:
ماكل مايتمنى المرء يدركه
وقول الآخر، من البسيط:
ما كل رأي الفتى يدعو إلى رشد
كل كما ترى غير معمل فيه الفعل ومرفوع، إما بالابتداء، وإما بأنه اسم ما. ثم إن المعنى مع ذلك على ما يكون عليه إذا أعملت فيه الفعل فقلت: ما يدرك المرء كل ما يتمناه، وما يدعو كل رأي الفتى إلى رشد، وذلك أن التأثير لوقوعه في حيز النفي، وذلك حاصل في الحالين. ولو قدمت كلا في هذا فقلت: كل ما يتمنى المرء لا يدركه، وكل رأي الفتى لا يدعو إلى رشد، لتغير المعنى، ولصار بمنزلة أن يقال: إن المرء لا يدرك شيئاً مما يتمناه، ولا يكون في رأي الفتى ما يدعو إلى رشد بوجه من الوجوه.


الصفحة التالية
Icon