واعلم أنك إذا أدخلت كلا في حيز النفي، وذلك بأن تقدم النفي عليه لفظاً أو تقدير فالمعنى على نفي الشمول دون نفي. الفعل والوصف نفسه. وإذا أخرجت كلاّ في حيز النفي ولم تدخله فيه لا لفظاً ولا تقديراً كان المعنى على أنك تتبعت الجملة، فنفيت الفعل والوصف عنها واحداً واحداً. والعلة في أن كان ذلك كذلك أنك إذا بدأت بكل كنت قد بنيت النفي عليه، وسلطت الكلية على النفي، وأعملتها فيه. وإعمال معنى الكلية في النفي يقتضي أن لا يشذ شيء عن النفي فاعرفه.
واعلم أن من شأن الوجوه والفروق أن لا يزال يحدث بسببها، وعلى حسب الأغراض والمعاني التي تقع فيها دقائق وخفايا لا إلى حد ونهاية، وأنها خفايا تكتم أنفسها جهدها حتى لا ينتبه لأكثرها، ولا يعلم أنها هي. وحتى لا تزال ترى العالم يعرض له السهو فيه، وحتى إنه ليقصد إلى الصواب، فيقع في أثناء كلامه ما يوهم الخطأ، وكل ذلك لشدة الخفاء وفرط الغموض.
وجوب تنكير بعض المفردات
واعلم أنه إذا كان بيناً في الشيء أنه لا يحتمل إلا الوجه الذي هو عليه حتى يشكل، وحتى لا يحتاج في العلم بأن ذلك حقه، وأنه الصواب إلى فكر وروية فلا مزية وإنما تكون المزية ويجب الفضل إذا احتمل في ظاهر الحال غير الوجه الذي جاء عليه وجهاً آخر، ثم رأيت النفس تنبو عن ذلك الوجه الآخر، ورأيت للذي جاء عليه حسناً وقبولاً يعدمهما إذا أنت تركته إلى الثاني.
ومثال ذلك قوله تعالى: " وجعلوا لله شركاء الجن " ليس بخاف أن لتقديم الشركاء حسناً وروعة ومأخذاً من القلوب أنت لا تجد شيئاً منه إن أنت أخرت فقلت: وجعلوا الجن شركاء لله، وأنك ترى حالك حال من نقل عن الصورة المبهجة والمنظر الرائق والحسن الباهر إلى الشيء الغفل الذي لا تحلى منه بكثير طائل، ولا تصير النفس به إلى حاصل والسبب في أن كان ذلك كذلك هو أن للتقديم فائدة شريفة. ومعنى جليلاً لا سبيل إليه مع التأخير. بيانه أنا وإن كنا نرى جملة المعنى ومحصوله أنهم جعلوا الجن شركاء، وعبدوهم مع الله تعالى، وكان هذا المعنى يحصل مع التأخير حصوله مع التقديم، فإن تقديم الشركاء يفيد هذا المعنى، ويفيد معه معنى آخر وهو أنه ما كان ينبغي أن يكون لله شريك لا من الجن ولا غير الجن. وإذا أخر فقيل: جعلوا الجن شركاء لله، لم يفد ذلك ولم يكن في شيء أكثر من الإخبار عنهم بأنهم عبدوا الجن مع الله تعالى. فأما إنكار أن يعبد مع الله غيره وأن يكون له شريك من الجن وغير الجن، فلا يكون في اللفظ مع تأخير الشركاء دليل عليه وذلك أن التقدير يكون مع التقديم أن شركاء مفعول أول لجعل، و لله في موضع المفعول الثاني، ويكون الجن على كلام ثاني على تقدير أنه كأنه قيل: فمن جعلوا شركاء لله تعالى، فقيل: الجن، وإذا كان التقدير في شركاء أنه مفعول أول، و لله في موضع المفعول الثاني، وقع الإنكار على كون شركاء الله تعالى على الإطلاق من غير اختصاص شيء دون شيء، وحصل من ذلك أن اتخاذ الشريك من غير الجن قد دخل في الإنكار دخول اتخاذه من الجن، لأن الصفة إذا ذكرت مجردة غير مجراة على شيء كان الذي تعلق بها من النفي عاماً في كل ما يجوز أن تكون له تلك الصفة.
فإذا قلت: ما في الدار كريم، كنت نفيت الكينونة في الدار عن كل من يكون الكرم صفة له. وحكم الإنكار أبداً حكم النفي. وإذا أخر فقيل: وجعلوا الجن شركاء لله، كان الجن، مفعولاً أول والشركاء مفعولاً ثانياً وإذا كان كذلك كان الشركاء مخصوصاً غير مطلق من حيث كان محالاً أن يجري خبراً على الجن، ثم يكون عاماً فيهم وفي غيرهم، إذا كان كذلك احتمل أن يكون القصد بالإنكار إلى الجن خصوصاً أن يكونوا شركاء دون غيرهم، جل الله وتعالى عن أن يكون له شريك وشبية بحال.