فانظر الآن إلى شرف ما حصل من المعنى بأن قدم الشركاء، واعتبره فإنه ينبهك لكثير من الأمور، ويدلك على عظم شأن النظم، وتعلم به كيف يكون الإيجاز به؟ وما صورته؟ كيف يزاد في المعنى من غير أن يزاد في اللفظ؟ إذ قد ترى أن ليس إلا تقديم وتأخير، وأنه قد حصل لك بذلك من زيادة المعنى ما إن حاولت مع تركه لم يحصل لك، واحتجت إلى أن تستأنف له كلاماً نحو أن تقول: وجعلوا الجن شركاء لله، وما ينبغي أن يكون لله شريك من الجن ولا من غيرهم. ثم لا يكون له إذا عقل من كلامين من الشرف والفخامة، ومن كرم الموقع في النفس ما تجده له الآن وقد عقل من هذا الكلام الواحد.
ومما ينظر إلى مثل ذلك قوله تعالى: " ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ". إذا أنت راجعت نفسك، وأذكيت حسك وجدت لهذا التنكير، وأن قيل على حياة ولم يقل على الحياة حسناً وروعة ولطف موقع، لا يقادر قدره. وتجدك تعدم ذلك مع التعريف، وتخرج عن الأريحية والأنس إلى خلافهما. والسبب في ذلك أن المعنى على الازدياد من الحياة، لا الحياة من أصلها، وذلك لا يحرص عليه إلا الحي. فأما العادم للحياة فلا يصح منه الحرص على الحياة ولا على غيرها. وإذا كان كذلك صار كأنه قيل: ولتجدنهم أحرص الناس، ولو عاشوا ما عاشوا على أن يزدادوا إلى حياتهم في ماضي الوقت وراهنه حياة في الذي يستقبل. فكما أنك لا تقول هاهنا أن يزدادوا إلى حياتهم الحياة بالتعريف، وإنما تقول حياة إذ كان التعريف يصلح حيث تراد الحياة على الإطلاق، كقولنا: كل أحد يحب الحياة ويكره الموت. كذلك الحكم في الآية.
والذي ينبغي أن يراعى أن المعنى الذي يوصف الإنسان بالحرص عليه، إذا كان موجوداً حال وصفك له بالحرص عليه، لم يتصور أن تجعله حريصاً عليه من أصله. كيف ولا يحرص على الراهن ولا الماضي. وإنما يكون الحرص على مالم يوجد بعد.
وشبيه بتنكير الحياة لا في هذه الآية تنكيرها في قوله عز وجل: " ولكم في القصاص حياة ". وذلك أن السبب في حسن التنكير وأن لم يحسن التعريف أن ليس المعنى على الحياة نفسها، ولكن على أنه لما كان الإنسان إذا علم أنه إذا قتل قتل ارتدع بذلك عن القتل، فسلم صاحبه صارت حياة هذا المهموم بقتله في مستأنف الوقت مستفادة بالقصاص، وصار كأنه قد حبي في باقي عمره به أي بالقصاص.
وإذا كان المعنى على حياة في بعض أوقاته وجب التنكير، وامتنع التعريف من حيث كان التعريف يقتضي أن تكون الحياة قد كانت بالقصاص من أصلها، وأن يكون القصاص قد كان سبباً في كونها في كافة الأوقات، وذلك خلاف المعنى وغير ما هو المقصود، ويبين ذلك أنك تقول: لك في هذا غنى، فتنكر إذا أردت أن تجعل ذلك من بعض ما يستغنى به. فإن قلت: لك في الغنى، كان الظاهر أنك جعلت غناه به.
وأمر آخر، وهو أنه لا يكون ارتداع حتى يكون هم وإرادة. وليس بواجب أن لا يكون إنسان في الدنيا إلا وله عدو يهم بقتله، ثم يردعه خوف القصاص. وإذا لم يجب ذلك فمن لم يهم إنسان بقتله فكفي ذلك الهم لخوف القصاص فليس هو ممن حيي بالقصاص. وإذا دخل الخصوص فقد وجب أن يقال حياة ولا يقال الحياة كما وجب أن يقال شفاء ولا يقال الشفاء في قوله تعالى: " يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس " حيث لم يكن شفاء للجميع.
واعلم أنه لا يتصور أن يكون الذي هم بالقتل، فلم يقتل خوف القصاص داخلاً في الجملة، وأن يكون القصاص أفاده حياة، كما أفاد المقصود قتله. وذلك أن هذه الحياة إنما هي لمن كان يقتل لولا القصاص، وذلك محال في صفة القاصد للقتل. فإنما يصح في وصفه ما هو كالضد لهذا، وهو أن يقال إنه كان لا يخاف عليه القتل لولا القصاص. وإذا كان هذا كذلك كان وجهاً ثالثاً من وجوب التنكير.
الذوق والمعرفة


الصفحة التالية
Icon