واعلم أنه لا يصادف القول في هذا الباب موقعاً من السامع، ولا يجد لديه قبولاً، حتى يكون من أهل الذوق والمعرفة، وحتى يكون ممن تحدثه نفسه بأن لما يومىء إليه من الحسن واللطف أصلاً، وحتى يختلف الحال عليه عند تأمل الكلام، فيجد الأريحية تارة، ويعرى منها أخرى. وحتى إذا عجبته عجب، وإذ نبهته لموضع المزية انتبه. فأما من كانت الحالان والوجهان عنده أبداً على سواء وكان لا يفقه من أمر النظم إلا الصحة المطلقة، وإلا إعراباً ظاهراً فما أقل ما يجدي الكلام معه. فليكن من هذه صفته عندك بمنزلة من عدم الإحساس بوزن الشعر، والذوق الذي يقيمه به، والطبع الذي يميز صحيحه من مكسوره، ومزاحفه من سالمه، وما خرج من البحر مما لم يخرج منه، في أنك لا تتصدى له، ولا تتكلف تعريفه لعلمك أنه قد عدم الأداة التي معها يعرف، والحاسة التي بها يجد. فليكن قدحك في زند وار، والحك في عود أنت تطمع منه في نار.
واعلم أن هؤلاء، وإن كانوا هم الآفة العظمى في هذا الباب، فإن من الآفة أيضاً، من زعم أنه لا سبيل إلى معرفة العلة في قليل ما تعرف المزية فيه وكثيره، وأن ليس إلا أن تعلم أن هذا التقديم، وهذا التنكير، أو هذا العطف، أو هذا الفصل، حسن. وأن له موقعاً من النفس، وحظاً من القبول. فأما أن تعلم لم كان كذلك؟ وما السبب؟ فمما لا سبيل إليه ولا مطمع في الاطلاع عليه، فهو بتوانيه، والكسل فيه، في حكم من قال ذلك.
واعلم أنه ليس إذا لم يمكن معرفة الكل وجب ترك النظر في الكل. وأن تعرف العلة والسبب فيما يمكنك معرفة ذلك فيه، وإن قل فتجعله شاهداً فيما لم تعرف أحرى من أن تسد باب المعرفة على نفسك، وتأخذها عن الفهم والتفهم، وتعودها الكسل والهوينى قال الجاحظ: وكلام كثير قد جرى على ألسنة الناس، وله مضرة شديدة وثمرة مرة. فمن أضر ذلك قولهم: لم يدع الأول للآخر شيئاً. قال: فلو أن علماء كل عصر مذ جرت هذه الكلمة في أسماعهم تركوا الاستنباط لما لم ينته إليهم عمن قبلهم لرأيت العلم مختلاً.
واعلم أن العلم إنما هو معدن، فكما أنه لا يمنعك أن ترى ألف وقر قد أخرجت من معدن تبر أن تطلب فيه، وأن تأخذ ما تجد ولو كقدر تومة كذلك ينبغي أن يكون رأيك في طلب العلم، ومن الله تعالى نسأل التوفيق.
فن من المجاز لم نذكره فيما تقدم
اعلم أن طريق المجاز والاتساع في الذي ذكرناه قبل، أنك ذكرت الكلمة وأنت لا تريد معناها، ولكن تريد معنى ما هو ردف له أو شبيه. فتجوزت بذلك في ذات الكلمة، وفي اللفظ نفسه. وإذ قد عرفت ذلك فاعلم أن في الكلام مجازاً على غير هذا السبيل، وهو أن يكون التجوز في حكم يجري على الكلمة فقط، وتكون الكلمة متروكة على ظاهرها، ويكون معناها مقصوداً في نفسه، ومراداً من غير تورية ولا تعريض. والمثال فيه قولهم: نهارك صائم، وليلك قائم، ونام ليلي، وتجلى همي. وقوله تعالى: " فما ربحت تجارتهم " وقول الفرزدق، من الطويل:

سقتها خروق في المسامع لم تكن علاطاً ولا مخبوطة في الملاغم
أنت ترى مجازاً في هذا كله، ولكن لا في ذوات الكلم، وأنفس الألفاظ ولكن في أحكام أجريت عليها، أفلا ترى أنك لم تتجوز في قولك: نهارك صائم، وليلك قائم في نفس صائم وقائم؟ ولكن في أن أجريتهما خبرين على النهار والليل. وكذلك ليس المجاز في الآية في لفظه ربحت نفسها، ولكن في إسنادها إلى التجارة. وهكذا الحكم في قوله سقتها خروق، ليس التجوز في نفس سقتها، ولكن في أن أسنده إلى الخروق. أفلا تر أنك لا ترى شيئاً منها إلا وقد أريد به معناه الذي وضع له على وجهه وحقيقته؟ فلم يرد بصائم غير الصوم، ولا بقائم غير القيام، ولاب ربحت غير الربح، ولاب سقت غير السقي، كما أريد ب سالت في قوله، من الطويل:
وسالت بأعناق المطي الأباطح
غير السيل.
واعلم أن الذي ذكرت لك في المجاز هناك من أن من شأنه أن يفخم عليه المعنى وتحدث فيه النباهة قائم لك مثله هاهنا. فليس يشتبه على عاقل أن ليس حال المعنى وموقعه في قوله، من الرجز:
فنام ليلي وتجلى همي


الصفحة التالية
Icon