أنه في تقدير محذوف، وأن معناه الآن كالمعنى إذا قلت: بدت مثل قمر، ومالت مثل خوط بان، وفاحت مثل عنبر، ورنت مثل غزال، في أنا نخرج إلى الغثاثة، وإلى شيء يعزل البلاغة عن سلطانها، ويخفض من شأنها، ويصد بأوجهنا عن محاسنها، ويسد باب المعرفة بها وبلطائفها علينا. فالوجه أن يكون تقدير المضاف في هذا على معنى أنه لو كان الكلام قد جيء به على ظاهره ولم يقصد إلى الذي ذكرنا من المبالغة والاتساع، وأن تجعل الناقة كأنها قد صارت بجملتها إقبالاً وإدباراً، حتى كأنها قد تجسمت منهما لكان حقه حينئذ أن يجاء فيه بلفظ الذات فيقال: إنما هي ذات إقبال وإدبار. فأما أن يكون الشعر الآن موضوعاً على إرادة ذلك، وعلى تنزيله منزلة المنطوق به حتى يكون الحال فيه كالحال في:
حسبت بغام راحلتي عناقاً
حين كان المعنى والقصد أن يقول: حسبت بغام راحلتي بغام عناق. مما لا مساغ له عند من كان صحيح الذوق، صحيح المعرفة، نسابة للمعاني.
تهور بعض المفسرين
هذه مسألة قد كنت عملتها قديماً، وقد كتبتها هاهنا لأن لها اتصالاً بهذا الذي صار بنا القول إليه. قوله تعالى: " إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب " أي لمن كان أعمل قلبه فيما خلق القلب له من التدبر والتفكر والنظر فيما ينبغي أن ينظر فيه. فهذا على أن يجعل الذي لا يعي ولا يسمع ولا ينظر ولا يتفكر، كأنه قد عدم القلب من حيث عدم الانتفاع به، وفاته الذي هو فائدة القلب والمطلوب منه. كما جعل الذي لا ينتفع ببصره وسمعه، ولا يفكر فيما يؤديان إليه، ولا يحصل من رؤية ما يرى وسماع ما يسمع على فائدة، بمنزلة من لا سمع له ولا بصر.
فأما تفسير من يفسره على أنه بمعنى من كان له عقل فإنه إنما يصح على أن يكون قد أراد الدلالة على الغرض على الجملة. فأما أن يؤخذ به على هذا الظاهر حتى كأن القلب اسم للعقل كما يتوهمه أهل الحشو، ومن لا يعرف مخارج الكلام، فمحال باطل، لأنه يؤدي إلى إبطال الغرض من الآية، وإلى تحريف الكلام عن صورته، وإزالة المعنى عن جهته. وذاك أن المراد به الحث على النظر، والتقريع على تركه، وذم من يخل به، ويغفل عنه. ولا يحصل ذلك إلا بالطريق الذي قدمته، وإلا بأن يكون قد جعل من لا يفقه بقلبه، ولا ينظر ولا يتفكر كأنه ليس بذي قلب، كما يجعل كأنه جماد، وكأنه ميت، لا يشعر ولا يحس. وليس سبيل من فسر القلب هاهنا على العقل، إلا سبيل من فسر عليه العين والسمع في قول الناس: هذا بين لمن كانت له عين، ولمن كان له سمع. وفسر العمى والصمم والموت في صفة من يوصف بالجهالة على مجرد الجهل، وأجرى جميع ذلك على الظاهر، فاعرفه.
ومن عادة قوم ممن يتعاطى التفسير بغير علم أن يتوهموا أبداً في الألفاظ الموضوعة على المجاز والتمثيل أنها على ظواهرها، فيفسدوا المعنى بذلك، ويبطلوا الغرض، ويمنعوا أنفسهم والسامع منهم العلم بموضع البلاغة وبمكان الشرف. وناهيك بهم إذا هم أخذوا في ذكر الوجوه، وجعلوا يكثرون في غير طائل. هناك ترى ما شئت من باب جهل قد فتحوه وزند ضلالة قد قدحوا به. ونسأل الله تعالى العصمة والتوفيق.
الكناية والتعريض
هذا فن من القول دقيق المسلم لطيف المأخذ وهو أنا نراهم كما يصنعون في نفس الصفة بأن يذهبوا بها مذهب الكناية والتعريض. كذلك يذهبون في إثبات الصفة هذا المذهب. وإذا فعلوا ذلك بدت هناك محاسن تملأ الطرف، ودقائق تعجز الوصف. ورأيت هناك شعراً شاعراً، وسحراً ساحراً، وبلاغة لا يكمل لها إلا الشاعر المفلق، والخطيب المصقع. وكما أن الصفة إذا لم تأتك مصرحاً بذكرها، مكشوفاً عن وجهها، ولكن مدلولاً بغيرها، كان ذلك أفخم لشأنها، وألطف لمكانها. كذلك إثباتك الصفة للشيء تثبتها له إذا لم تلقه إلى السامع صريحاً، وجئت إليه من جانب التعريض والكناية، والرمز والإشارة، كان له من الفضل والمزية، ومن الحسن والرونق، ما لا يقل قليله، ولا يجهل موضع الفضيلة وتفسير هذه الجملة وشرحها أنهم يرومون وصف الرجل ومدحه وإثبات معنى من المعاني الشريفة له، فيدعون التصريح بذلك ويكنون عن جعلها فيه بجعلها في شيء يشتمل عليه، ويتلبس به. ويتوصلون في الجملة إلى ما أرادوا من الإثبات لا من الجهة الظاهرة المعروفة، بل من طريق يخفى، ومسلك يدق. ومثاله قول زياد الأعجم، من الكامل: