إن السماحة والمروءة والندى... في قبة ضربت على ابن الحشرج
وبعده:
ملك أغر متوج ذو نائل... للمعتفين يمينه لم تشنج
ياخير من صعد المنابر بالتقى... بعد النبي المصطفى المتحرج
لما أتيتك راجياً لنوالكم... ألفيت باب نوالكم لم يرتج
أراد كما لا يخفى أن يثبت هذه المعاني والأوصاف خلالاً للمدوح، وضرائب فيه. فترك أن يصرح فيقول: إن السماحة والمروءة والندى مجموعة في ابن الحشرج، أو مقصورة عليه، أو مختصة به، وما شاكل ذلك مما هو صريح في إثبات الأوصاف للذكورين بها. وعدل إلى ما ترى من الكناية والتلويح، فجعل كونها في القبة المضروبة عليه عبارة عن كرنها فيه، وإشارة إليه. فخرج كلامه بذلك إلى ما خرج إليه من الجزالة، وظهر فيه ما أنت ترى من الفخامة. ولو أنه أسقط هذه الواسطة من البيت لما كان إلا كلاماً غفلاً، وحديثاً ساذجاً. فهذه الصنعة في طريق الإثبات هي نظير الصنعة في المعاني إذا جاءت كنايات، عن معان أخر نحو قوله، من الوافر:
وما يك في من عيب فإني... جبان الكلب مهزول الفصيل
فكما أنه إنما كان من فاخر الشعر، ومما يقع في الاختيار لأجل أن أراد أن يذكر نفسه بالقرى والضيافة فكن عن ذلك بجبن الكلب، وهزال الفصيل، وترك أن يصرخ فيقول: قد عرف أن جنابي مألوف، وكلبي مؤدب لا يهر في وجوه من يغشاني من الأضياف، وأني أنحر المتالي من إبلي، وأدع فصالها هزلى.
كذلك إنما راقك بيت زياد لأنه كنى عن إثباته السماحة والمروءة والندى كائنة الممدوح بجعلها كائنة في القبة المضروبة عليه. هذا وكما أن من شأن الكناية الواقعة في نفس الصفة أن تجيء على صور مختلفة، كذلك من شأنها إذا وقعت في طريق إثبات الصفة أن تجيء على هذا الحد، ثم يكون في ذلك ما يتناسب كما كان ذلك في الكناية الصفة نفسها. تفسير هذا أنك تنظر إلى قول يزيد بن الحكم يمدح به يزيد بن المهلب وهو في حبس الحجاج، من المنسرح:
أصبح في قيدك السماحة وال... مجد وفضل الصلاح والحسب
فتراه نظيراً لبيت زياد، وتعلم أن مكان القيد هاهنا هو مكان القبة هناك. كما أنك تنظر إلى قوله: جبان الكلب، فتعلم أنه نظير لقوله، من الطويل:
زجرت كلابي أن يهر عقورها
من حيث لم يكن ذلك الجبن إلا لأن دام منه الزجر. واستمر حتى أخرج الكلب بذلك عما هو عادته من الهرير والنبح في وجه من يدنو من دار هو مرصد لأن يعس دونها. وتنظر إلى قوله: مهزول الفصيل فتعلم أنه نظير قول ابن هرمة.
لا أمتع العود بالفصال
وتنظر إلى قول نصيب، من المتقارب:
لعبد العزيز على قومه... وغيرهم منن ظاهره
فبابك أسهل أبوابهم... ودارك مأهولة عامره
وكلبك آنس بالزائري... ن من الأم بالابنة الزائره
فتعلم أنه من قول الآخر، من الطويل:
يكاد إذا ما أبصر الضيف مقبلاً... يكلمه من حبه وهو أعجم
وأن بينهما قرابة شديدة ونسباً لاصقاً، وأن صورتهما في فرط التناسب صورة بيتي زياد ويزيد.
ومما هو إثبات للصفة على طريق الكناية والتعريض قولهم: المجد بين ثوبيه، والكرم في برديه وذلك أن قائل هذا يتوصل إلى إثبات المجد والكرم للممدوح بأن يجعلهما في ثوبه الذي يلبسه، كما توصل زياد إلى إثبات السماحة والمروءة والندى لابن الحشرج، بأن جعلها في القبة التي هوجالس فيها. ومن ذلك قوله، من البسيط:
وحيثما يك أمر صالح فكن
وما جاء في معناه من قوله، من المتقارب:
يصير أبان قرين السما... ح والمكرمات معاً حيث صارا
وقول أبي نواس، من الطويل:
فما خازه جود ولاخل دونه... ولكن يصير الجود حيث يصير
كل ذلك توصل إلى إثبات الصفة في الممدوح، بإئباتها في المكان الذي يكون فيه، وإلى لزومها له بلزومها الموضع الذي يحفل. وهكذا إن اعتبرت قول الشنفرى يصف امرأة بالعفة، من الطويل:
يبيت بمنجاة من اللوم بيتها... إذا ما بيوت بالملامة حلت