المقصود قوله: إنه هو الري، وذلك أن الهاء في إنه تحتمل أمرين: أحدهما أن تكون ضمير الأمر ويكون قوله هو ضمير أن ترضى، وقد أضمر قبل الذكر على شريطة التفسير. الأصل: أن الأمر أن ترضى النفوس ثمادها الري، ثم أضمر قبل الذكر كما أضمرت الأبصار في " فإنها لا تعمى الأبصار " على مذهب أبي الحسن ثم أتى بالمضمر مصرحاً به في آخر الكلام، فعلم بذلك أن الضمير السابق له، وأنه المراد به. والثاني أن تكون الهاء في إنه ضمير أن ترضى قبل الذكر، ويكون هو فصلاً، ويكون أصل الكلام: إن أن ترضى النفوس ثمادها هو الري، ثم أضمر على شريطة التفسير. وأي الأمرين كان فإنه لا بد فيه من إن ولا سبيل إلى إسقاطها، لأنك إن أسقطتها أفضى ذلك بك إلى شيء شنيع، وهو أن تقول: وأرضى بها من بحر آخر وهو الري أن ترضى النفوس ثمادها.
هذا وفي إن هذه شيء آخر، يوجب الحاجة إليها، وهو أنها تتولى من ربط الجملة بما قبلها نحوا مما ذكرت لك في بيت بشار. ألا ترى أنك لو أسقطت إن والضميرين معاً، واقتصرت على ذكر ما يبقى من الكلام لم تقله إلا بالفاء، كقولك: وأرضى بها من بحر آخر، فالري أن ترضى النفوس ثمادها. فلو أن الفيلسوف قد كان تتبع هذه المواضع لما ظن الذي ظن.
هذا، وإذا كان خلف الأحمر، وهو القدوة، ومن يؤخذ عنه، ومن هو بحيث يقول الشعر فينحله الفحول والجاهليين، فيخفى ذلك له. ويجوز أن يشتبه ما نحن فيه عليه حتى يقع له أن ينتقد على بشار. فلا غرو أن تدخل الشبهة في ذلك على الكندي.
ومما تصنعه إن في الكلام أنك تراها تهيىء النكرة، وتصلحها لأن يكون لها حكم المبتدأ، أعني أن تكون محدثاً عنها بحديث من بعدها. ومثال ذلك قوله، من مخلع البسيط:
إن شواء ونشوة... وخبب البازل الأمون
قد ترى حسنها وصحة المعنى معها، ثم إنك إن جئت بها من غير إن فقلت:
شواء ونشوة وخبب البازل الأمون
لم يكن كلاماً. فإن كانت النكرة موصوفة، وكانت لذلك تصلح أن يبتدأ بها فإنك تراها مع إن، أحسن، وترى المعنى حينئذ أولى بالصحة وأمكن. أفلا ترى إلى قوله، من الخفيف:
إن دهراً يلف شملي بسعدى... لزمان يهم بالإحسان
ليس بخفي وإن كان يستقيم أن تقول: دهر يلف شملي بسعدى دهر صالح: أن ليس الحالان على سواء. وكذلك ليس يخفى أنك لو عمدت إلى قوله، من مشطور المديد:
إن أمراً فادحاً... عن جوابي شغلك
فأسقطت منه إن لعدمت منه الحسن والطلاوة والتمكن الذي أنت واجده الآن، ووجدت ضعفاً وفتوراً.
ومن تأثير إن في الجملة أنها تغني إذا كانت فيها عن الخبر في بعض الكلام. ووضع صاحب الكتاب في ذلك باباً فقال: هذا باب ما يحسن عليه السكوت في الأحرف الخمسة لإضمارك ما يكون مستقراً لها، وموضعاً لو أضمرته، وليس هذا المضمر بنفس المظهر. وذلك إن مالاً وإن ولداً وإن عدداً أي: إن لهم مالاً. فالذي أضمرت هو لهم. ويقول الرجل للرجل: هل لكم أحد إن الناس ألب عليكم؟ فيقول: إن زيداً وإن عمراً، أي لنا وقال، من المنسرح:
إن محلا وإن مرتحلا... وإن في السفر إن مضوا مهلا
وتقول: إن غيرها إبلا وشاء، كأنه قال: إن لنا أو عندنا غيرها. قال: وانتصب الإبل والشاء كانتصاب الفارس إذا قلت: ما في الناس مثله فارساً. وقال: ومثل ذلك قوله، من الرجز:
يا ليت أيام الصبا رواجعا
قال: فهذا كقولهم: ألا ماء بارداً: وكأنه قال: ألا ماء لنا بارداً: وكأنه قال: يا ليت أيام الصبا أقبلت رواجع.
فقد أراك في هذا كله أن الخبر محذوف. وقد ترى حسن الكلام وصحته مع حذفه وترك النطق به. ثم إنك إن عمدت إلى إن فأسقطتها وجدت الذي كان حسن من حذف الخبر لا يحسن أولا يسوغ فلو قلت: مال وعدد ومحل ومرتحل وغيرها إبلاً وشاء لم يكن شيئاً. وذلك أن إن كانت السبب في أن حسن حذف الذي حذف من الخبر، وأنها حاضنته والمترجم عنه والمتكفل بشأنه.


الصفحة التالية
Icon