واعلم أن الذي قلنا في إن من أنها تدخل على الجملة، من شأنها إذا هي أسقطت منها أن يحتاج فيها إلى الفاء، لا يطرد في كل شيء وكل موضع، بل يكون في موضع، دون موضع، وفي حال دون حال. فإنك قد تراها قد دخلت على الجملة ليست هي مما يقتضي الفاء. وذلك فيما لا يحصى كقوله تعالى: " إن المتقين في مقام أمين. في جنات وعيون "، وذاك أن قبله " إن هذا ما كنتم به تمترون ". ومعلوم أنك لو قلت: إن هذا ما كنتم به تمترون، فالمتقون في جنات وعيون، لم يكن كلاماً. وكذلك قوله: " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون " لأنك لو قلت: " لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون ". فالذين سبقت لهم منا الحسنى، لم تجد لإدخالك الفاء فيه وجهاً. وكذا قوله: " إن الذين أمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة "، " الذين أمنوا " اسم إن وما بعده معطوف عليه، وقوله: " إن الله يفصل بينهم يوم القيامة " جملة في موضع الخبر. ودخول الفاء فيها محال، لأن الخبر لا يعطف على المبتدأ.
ومثله سواء " إن الذين أمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً " فإذا إنما يكون الذي ذكرنا في الجملة من حديث اقتضاء الفاء، إذا كان مصدرها مصدر، الكلام يصحح به ما قبله، ويحتج له، ويبين وجه الفائدة فيه. ألا ترى أن الغرض من قوله: إن ذاك النجاح في التكبير، جله أن يبين المعنى في قوله لصاحبيه بكرا، وأن يحتبج لنفسه الأمر بالتبكير ويبين وجه الفائدة فيه. وكذلك الحكم في الآي التي تلوناها فقوله: " إن زلزلة الساعة شيء عظيم "، بيان للمعنى في قوله تعالى: " يا أيها الناس اتقوا ربكم " ولم أمروا بأن يتقوا، وكذلك قوله: " إن صلاتك سكن "، بيان للمعنى في أمر النبي ﷺ بالصلاة، أي بالدعاء لهم. ولهذا سبيل كل ما أنت ترى فيه الجملة يحتاج فيها إلى الفاء. فاعرف ذلك.
فأما الذي ذكر عن أبي العباس من جعله لها جواب سائل، إذا كانت وحدها. وجواب منكر إذا كان معها اللام. فالذي يدل على أن لها أصلاً في الجواب أنا رأيناهم قد ألزموها الجملة من المبتدأ والخبر، إذا كانت جواباً للقسم نحو: والله إن زيداً منطلق. وامتنعوا من أن يقولوا: والله زيد منطلق. ثم إنا إذا استقرينا الكلام وجدنا الأمر بيناً، في الكثير من مواقعها، أنه يقصد بها إلى الجواب كقوله تعالى: " ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكراً. إنا مكنا له في الأرض " وكقوله عز وجل في أول السورة: " نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم " وكقوله تعالى: " فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون " وقوله تعالى: " قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله " وقوله: وقل إني أنا النذير المبين " وأشباه ذلك مما يعلم به أنه كلام أمر النبي ﷺ بأن يجيب به الكفار في بعض ما جادلوا وناظروا فيه. وعلى ذلك قوله تعالى: " فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين " وذاك أنه يعلم أن المعنى: فاتياه فإذا قال لكما ما شأنكما؟ وما جاء بكما؟ وما تقولان؟ فقولا: إنا رسول رب العالمين. وكذا قوله: " وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين " هذا سبيله.
ومن البين في ذلك قوله تعالى في قصة السحرة: " قالوا إنا إلى ربنا منقلبون ". وذاك لأنه عيان أنه جواب فرعون عن قوله: " أمنتم له قبل أن آذن لكم " فهذا هو وجه القول في نصرة هذه الحكاية.
ثم إن الأصل الذي ينبغي أن يكون عليه البناء هو الذي دون في الكتب من أنها للتأكيد. وإذا كان قد ثبت ذلك، فإذا كان الخبر بأمر ليس للمخاطب ظن في خلافه البتة، ولا يكون قد عقد في نفسه أن الذي تزعم أنه كائن غير كائن، وأن الذي تزعم أنه لم يكن كائن فأنت لا تحتاج هناك إلى إن، وإنما تحتاج إليها إذا كان له ظن في الخلاف، وعقد قلب على نفي ماتثبت، أو إثبات ما تنفي. ولذلك تراها تزداد حسناً إذا كان الخبر بأمر يبعد مثله في الظن، وبشيء قد جرت عادة الناس بخلافه كقول أبي نواس، من السريع:
إن غنى نفسك في الياس