فقد ترى حسن موقعها، وكيف قبول النفس لها، وليس ذلك ألا لأن الغالب على الناس أنهم لا يحملون أنفسهم على اليأس، ولا يدعون الرجاء والطمع، ولا يعترف كل أحد، ولا يسلم أن الغنى في اليأس. فلما كان كذلك كان الموضع موضع إلى التأكيد، فلذلك كان من حسنها ما ترى. ومثله سواء قول محمد بن وهيب؟ من الطويل:

أجارتنا إن التعفف بالياس وصبراً على استدرار دنيا بإبساس
حريان أن لا يقذفا بمذلة كريماً وأن لا يحوجاه إلى الناس
أجارتنا إن القداح كواذب وأكثر أسباب النجاح مع الياس
هو كما لا يخفى كلام مع من لا يرى أن الأمر كما قال، بل ينكره ويعتقد خلافه. ومعلوم أنه لم يقله إلا والمرأة تحدوه، وتبعثه على التعرض للناس وعلى الطلب.
ومن لطيف مواقعها أن يدعى على المخاطب ظن لم يظنه، ولكن يراد التهكم به وأن يقال: إن حالك، والذي صنعت يقتضي أن تكون قد ظننت ذلك. ومثال ذلك قول الأول من السريع:
جاء شقيق عارضاً رمحه إن بني عمك فيهم رماح
يقول: إن مجيئه هكذا مدلا بنفسه وبشجاعته قد وضع رمحه عرضاً دليل على إعجاب شديد، وعلى اعتقاد منه أنه لا يقوم له أحد، حتى كأن ليس مع أحد منا رمح يدفعه به، وكأنا كلنا عزل. وإذا كان كذلك وجب إذا قيل إنها جواب سائل أن يشترط فيه أن يكون للسائل ظن في المسؤول عنه، على خلاف ما أنت تجيبه به، فأما أن يجعل مجرد الجواب أصلاً فيه، فلا لأنه يؤدي أن لا يستقيم لنا إذا قال الرجل: كيف زيد؟ أن تقول: صالح. وإذا قال: أين هو؟ أن تقول: في الدار. وأن لا يصح حتى تقول: إنه صالح، وإنه في الدار وذلك ما لا يقوله أحد. وأما جعلها إذا جمع بينها وبين اللام نحو: إن عبد الله لقائم للكلام مع المنكر فجيد، لأنه إذا كان الكلام مع المنكر كانت الحاجة إلى التأكيد أشد وذلك أنك أحوج ما تكون إلى الزيادة في تثبيت خبرك، إذا كان هناك من يدفعه وينكر صحته. إلا أنه ينبغي أن يعلم أنه كما يكون للإنكار قد كان من السامع فإنه يكون للإنكار أو يرى أن يكون من السامعين. وجملة الأمر أنك لا تقول: إنه لكذلك، حتى تريد أن تضع كلامك وضع من يزع فيه عن الإنكار.
واعلم أنها قد تدخل للدلالة على أن الظن قد كان منك، أيها المتكلم في الذي كان إنه لا يكون. وذلك قولك للشيء: هو بمرأى من المخاطب ومسمع، إنه كان من الأمر ما ترى، وكان مني إلى فلان إحسان ومعروف، ثم إنه جعل جزائي ما رأيت. فتجعلك كأنك ترد على نفسك ظنك الذي ظننت، وتبين الخطأ الذي توهمت. وعلى ذلك والله أعلم قوله تعالى حكاية عن أم مريم رضي الله عنها: " قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت "، وكذلك قوله عز وجل حكاية عن نوح عليه السلام: " قال رب إن قومي كذبون ". وليس الذي يعرض بسبب هذا الحرف من الدقائق والأمور الخفية يدرك بالهوينا ونحن نقتصر الآن على ما ذكرنا، ونأخذ في القول عليها إذا اتصلت بها ما.
مسائل إنما
قال الشيخ أبو علي في الشيرازيات: يقول ناس من النحويين في نحو قوله تعالى: " قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن " : إن المعنى: ما حرم ربي الا الفواحش. قال: وأصبت ما يدل على صحة قولهم في هذا، وهو قول الفرزدق، من الطويل:
أنا الذائد الحامي الذمار، وإنما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي
فليس يخلو هذا الكلام من أن يكون موجباً أو منفياً. فلو كان المراد به الإيجاب لم يستقم. ألا ترى أنك لا تقول: يدافع أنا ولا يقاتل أنا؟ وإنما تقول: أدافع وأقاتل. ألا أن المعنى لما كان: ما يدافع إلا أنا، فصلت الضمير كما تفصله مع النفي إذا ألحقت معه إلا حملاً على المعنى. وقال أبو إسحاق الزجاج في قوله تعالى: " إنما حرم عليكم الميتة والدم " النصب في الميتة هو القراءة ويجوز: إنما حرم عليكم. قال أبو إسحاق: والذي أختاره أن تكون ما هي التي تمنع إن من العمل، ويكون المعنى: ما حرم عليكم إلا الميتة لأن إنما تأتي إثباتاً لما يذكر بعدها ونفياً لما سواه، وقول الشاعر:
وإنما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي
المعنى: ما يدافع عن أحسابهم إلا أنا أو مثلي. انتهى كلام أبي علي.


الصفحة التالية
Icon