اعلم أنهم وإن كانوا قد قالوا: هذا الذي كتبته لك، فإنهم لم يعنوا بذلك أن المعنى في هذا هو المعنى في ذلك بعينه، وأن سبيلهما سبيل اللفظين يوضعان لمعنى واحد. وفرق بين أن يكون في الشيء معنى الشيء، وبين أن يكون الشيء للشيء على الإطلاق. يبين لك أنهما لا يكونان سواء أنه ليس كل كلام يصلح فيه ما وإلا يصلح فيه إنما ألا ترى أنها لا تصلح في مثل قوله تعالى: " وما من إله إلا الله " ولا في نحو قولنا: ما أحد إلا وهو يقول ذاك. إذ لو قلت: إنما من إله الله، وإنما أحد وهو يقول ذاك، قلت ما لا يكون له معنى. فإن قلت: إن سبب ذلك أن أحداً لا يقع إلا في النفي وما يجري مجرى النفي من النهي والاستفهام، وأن من المزيدة في ما من إله إلا الله كذلك لا تكون إلا في النفي. قيل: ففي هذا كفاية بأنه اعتراف بأن ليسا سواء، لأنهما لو كانا سواء لكان ينبغي أن يكون في إنما من النفي مثل ما يكون في ما وإلا. وكما وجدت إنما لا تصلح فيما ذكرنا تجد ما وإلا لا تصلح في ضرب من الكلام قد صلحت فيه إنما، وذلك في مثل قولك: إنما هو درهم، لا دينار. لو قلت ما هو إلا درهم لا دينار، لم يكن شيئاً. وإذ قد بان بهذه الجملة أنهم حين جعلوا إنما في معنى ما وإلا لم يعنوا أن المعنى فيهما واحد على الإطلاق، وأن يسقطوا الفرق، فإني أبين لك أمرها وما هو أصل في كل واحد منهما بعون الله وتوفيقه.
اعلم أن موضوع إنما على أن تجيء لخبر لا يجهله المخاطب، ولا يدفع صحته، أو لما ينزل هذه المنزلة. تفسير ذلك أنك تقول للرجل: إنما هو أخوك، وإنما هو صاحبك القديم، لا تقوله لمن يجهل ذلك، ويدفع صحته، ولكن لمن يعلمه ويقر به. إلا أنك تريد أن تنبهه للذي يجب عليه من حق الأخ وحرمة الصاحب. ومثله قول الآخر، من الخفيف:

إنما أنت والد والأب القا طع أحنى من واصل الأولاد
لم يرد أن يعلم كافوراً أنه والد، ولا ذاك مما يحتاج كافور فيه إلى الإعلام، ولكنه أراد أن يذكره بالأمر المعلوم لينبني عليه استدعاء ما يوجبه كونه بمنزلة الوالد. ومثل ذلك قولهم: إنما يعجل من يخشى الفوت. وذلك أن من المعلوم الثابت في النفوس أن من لم يخش الفوت لم يعجل. ومثاله من التنزيل قوله تعالى: " إنما يستجيب الذين يسمعون " وقوله تعالى: " إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب " وقوله تعالى: " إنما أنت منذر من يخشاها ". كل ذلك تذكير بأمر ثابت معلوم. وذلك أن كل عاقل يعلم أنه لا تكون استجابة إلا ممن يسمع ويعقل ما يقال له، ويدعى إليه. وأن من لم يسمع ولم يعقل لم يستجب. وكذلك معلوم أن الإنذار إنما يكون إنذاراً، ويكون له تأثير إذا كان مع من يؤمن بالله، ويخشاه، ويصدق بالبعث والساعة. فأما الكافر الجاهل فالإنذار معه واحد. فهذا مثال الخبر فيه خبر بأمر يعلمه المخاطب، ولا ينكره بحال.
وأما مثال ما ينزل هذه المنزلة فكقوله، من الخفيف:
إنما مصعب شهاب من الل ه تجلت عن وجهه الظلماء
ادعى في كون الممدوح بهذه الصفة أنه أمر ظاهر معلوم للجميع على عادة الشعراء، إذا مدحوا، أن يدعوا في الأوصاف التي يذكرون بها الممدوحين أنها ثابتة لهم، وأنهم قد شهروا بها، وأنهم لم يصفوا إلا بالمعلوم الظاهر الذي لا يدفعه أحد كما قال:
وتعذلني أفناء سعد عليهم وما قلت إلا بالذي علمت سعد
وكما قال البحتري:
لا أدعي لأبي العلاء فضيلة حتى يسلمها إليه عداه
ومثله قولهم: إنما هو أسد، وإنما هو نار، وإنما هو سيف صارم. إذا أدخلوا إنما جعلوا في حكم الظاهر المعلوم الذي لا ينكر، ولا يدفع، ولا يخفى.


الصفحة التالية
Icon