نَقْط المصحف الشريف
كُتبت مصاحف عثمان خالية من النقط والشكل؛ حتى تحتمل قراءتُها الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن الكريم، وعندما أرسلها إلى الأمصار رضي بها الجميع، ونسخوا على غرارها مصاحف كثيرة خالية من النقط والشكل (١). واستمروا على ذلك أكثر من أربعين سنة.
وخلال هذه الفترة توسعت الفتوح، ودخلت أممٌ كثيرة لا تتكلم العربية في الإسلام؛ فتفشت العجمة بين الناس، وكثر اللحن، حتى بين العرب أنفسهم؛ بسبب كثرة اختلاطهم ومصاهرتهم للعجم، ولما كان المصحف الشريف غير منقوط خشي ولاة أمر المسلمين عليه أن يتطرق له اللحن والتحريف.
وكان أول من التفت إلى نقط المصحف الشريف هو زياد بن أبيه؛ ولذلك قصة، وهي: أن معاوية بن أبي سفيان كتب إلى زياد عندما كان واليًا على البصرة (٤٥-٥٣هـ) أن يبعث إليه ابنه عبيد الله، ولما دخل عليه وجده يلحن في كلامه، فكتب إلى زياد يلومه على وقوع ابنه في اللحن، فبعث زياد إلى أبي الأسود الدؤلي (٢) يقول له: ((إن هذه الحمراء قد كثرت وأفسدت مِن ألسنة العرب، فلو وضعت شيئًا يُصلح به الناسُ كلامَهم، ويعربون به كتاب الله)). فاعتذر أبو الأسود فلجأ زياد إلى حيلة؛ بأن وضع في طريقه رجلا وقال له: إذا مرّ بك أبو الأسود فاقرأ شيئًا من القرآن، وتعمد اللحن فيه. فلما مرّ به قرأ قوله تعالى: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ (٣)، بجرّ لام رسوله، فشق ذلك على أبي الأسود، وقال: ((عزّ وجه الله أن يتبرأ من رسوله)). وقال لزياد: ((قد أجبتك إلى ما طلبت، ورأيت أن أبدأ بإعراب القرآن))، واختار رجلا من عبد القيس، وقال له: ((خذ المصحف، وصِبغًا يخالف لون المداد، فإذا رأيتني فتحت شفتي بالحرف فانقط واحدة فوقه، وإذا كسرتها فانقط واحدة أسفله، وإذا ضممتها فاجعل النقطة إلى جانب الحرف (أي أمامه)، فإذا أتبعت شيئًا من هذه الحركات غنة (أي تنوينًا)، فانقط نقطتين)).
فأخذ أبو الأسود يقرأ المصحف بالتأني، والكاتب يضع النقط، واستمر على ذلك حتى أعرب المصحف كله، وكان كلما أتم الكاتب صحيفة، أعاد أبو الأسود نظره فيها (٤).
وجاء تلاميذ أبي الأسود بعده، وتفننوا في شكل النقطة؛ فمنهم مَن جعلها مربعة، ومنهم من جعلها مدورة مطموسة الوسط، ومنهم من جعلها مدورة خالية الوسط (٥). وكانوا لا يضعون شيئًا أمام الحرف الساكن، أما إذا كان منونًا فيضعون نقطتين فوقه، أو تحته، أو عن شماله؛ واحدة للدلالة على أن النون مدغمة أو مخفاة، وفي تطور لاحق وضعوا للسكون جرة أفقية فوق الحرف منفصلة عنه، وجعلوا علامة الحرف المشدد كالقوس، ولألف الوصل جرة متصلة بها في أعلاها، إذا كان قبلها فتحة، وفي أسفلها إذا كان قبلها كسرة، وفي وسطها إذا كان قبلها ضمة هكذا، وذلك باللون الأحمر (٦).
وكان هذا النقط يُسمى شكلا أو ضبطًا؛ لأنه يدل على شكل الحرف وصورته، وما يعرض له من حركة، أو سكون، أو شد، أو مد، ونحو ذلك.
وكانت الآراء مختلفة في أول من وضع هذا النقط، إلا أن أكثر هذه الآراء يذهب إلى أن المخترع الأول لهذا النوع من النقط هو أبو الأسود الدؤلي.
كما كانت الآراء مختلفة بين جوازه والأخذ به، وكراهته والرغبة عنه؛ جوازه لما فيه من البيان والضبط والتقييد، وكراهته؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم عندما جمعوا القرآن، وكتبوا المصاحف جردوها من النقط والشكل، فلو كان مطلوبًا لما جردوها، يقول القلقشندي: ((وأما أهل التوقيع في زماننا فإنهم يرغبون عنه (أي النقط) ؛ خشية الإظلام بالنقط والشكل، إلا ما فيه إلباس على ما مر، وأهل الدَّيْونة (٧) لا يرون بشيء من ذلك أصلا ويعدون ذلك من عيوب الكتابة، وإن دعت الحاجة إليه)) (٨).
أما نقط الإعجام، فهو ما يدل على ذات الحرف، ويميز المتشابه منه؛ لمنع العجمة، أو اللبس. كحروف الباء والتاء والثاء والياء، والجيم والحاء والخاء، والراء والزاي، والسين والشين، والعين والغين، والفاء والقاف، ونحوها مما يتفق في الرسم ويختلف في النطق، فقد دعت الحاجة إليه عندما كثر الداخلون في الإسلام من الأعاجم، وكثر التصحيف في لغة العرب، وخيف على القرآن أن تمتد له يد العبث.
واختلفت الآراء في أول من أخذ بهذا النقط، وأرجحها في ذلك ما ذهب إلى أن أول من قام به هما: نصر بن عاصم (٩) ويحيى بن يَعْمَر (١٠) ؛ وذلك عندما أمر الخليفة الأموي عبدُالملك بن مروان الحجاج بن يوسف الثقفي والي العراق (٧٥-٩٥هـ) أن يضع علاجًا لمشكلة تفشي العجمة، وكثرة التصحيف، فاختار كلا من نصر بن عاصم، ويحيى بن يَعْمَر لهذه المهمة؛ لأنهما أعرف أهل عصرهما بعلوم العربية وأسرارها، وفنون القراءات وتوجيهها (١١)
وبعد البحث والتروي، قررا إحياء نقط الإعجام (١٢)، وقررا الأخذ بالإهمال والإعجام، مثلا الدال والذال، تهمل الأولى وتعجم الثانية بنقطة واحدة فوقية، وكذلك الراء والزاي، والصاد والضاد، والطاء والظاء، والعين والغين. أما السين والشين، فأهملت الأولى وأعجمت الثانية بثلاث نقط فوقية؛ لأنها ثلاث أسنان، فلو أعجمت الثانية واحدة لتوهم متوهم أن الحرف الذي تحت النقطة نون والباقي حرفان مثل الباء والتاء تسوهل في إعجامهما.
أما الباء والتاء والثاء والنون والياء، فأعجمت كلها، والجيم والحاء والخاء، أعجمت الجيم والخاء، وأهملت الحاء، أما الفاء والقاف، فإن القياس أن تهمل الأولى وتعجم الثانية، إلا أن المشارقة نقطوا الفاء بواحدة فوقية، والقاف باثنتين فوقيتين أيضًا، أما المغاربة فذهبوا إلى نقط الفاء بواحدة تحتية، والقاف بواحدة فوقية.. وهكذا كان نقط الإعجام في بقية الأحرف (١٣).
وقد أخذ نقط الإعجام في بدايته شكل التدوير، ثم تطور بعد ذلك وأخذ شكل المربع، وشكل المدور المطموس الوسط، كما استخدمت الجرة الصغيرة فوق الحرف وتحته (١٤).
وكتب هذا النوع من النقط بلون مداد المصحف؛ حتى لا يشتبه بنقط الإعراب، واستمر الوضع على ذلك حتى نهاية الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية سنة ١٣٢هـ، حيث تفنن الناس خلال هذه الفترة في اتخاذ الألوان في نقط مصاحفهم، ففي المدينة استخدموا السواد للحروف ونقط الإعجام، والحمرة للحركات والسكون والتشديد والتخفيف، والصفرة للهمزات، وفي الأندلس استخدموا أربعة ألوان: السواد للحروف، والحمرة لنقط الإعراب، والصفرة للهمزات، والخضرة لألِفات الوصل، أما في العراق فاستخدموا السواد لكتابة حروف المصحف ونُقط الإعجام، والحمرة لنقط الإعراب (الحركات والهمزات)، واستخدم في بعض المصاحف الخاصة الحمرة للرفع والخفض والنصب، والخضرة للهمزة المجردة، والصفرة للهمزة المشدَّدة.
فاستخدام السواد كان عند الجميع لحروف المصحف ونقط الإعجام، والألوان الأخرى لغيرهما (١٥).
امتلأت المصاحف بالألوان المتعددة ((التي أصبحت عبئًا على عقل القارئ، وصعوبة على قلم الكاتب)) (١٦)، وكان النقط جميعه مدورًا سواء نقط الإعراب أو الإعجام، فوقع الناس في الخلط بين الحروف.
واتفقت الآراء على أن يجعل نقط الإعراب (الشكل) بمداد الكتابة نفسه تيسيرًا على الناس، فأخذ إمام اللغة: الخليل بن أحمد الفراهيدي (١٧) على عاتقه القيام بهذا العمل؛ فجعل الفتحة ألفًا صغيرة مضطجعة فوق الحرف، والكسرة ياء صغيرة تحته، والضمة واوًا صغيرة فوقه. وإن كان الحرف منوّنًا كرر الحرف، وجعل ما فيه إدغام من السكون الشديد رأس شين بغير نقط (سـ)، وما ليس فيه إدغام من السكون الخفيف رأس خاء بلا نقط (حـ) والهمزة رأس عين (عـ)، وفوق ألف الوصل رأس صاد (صـ)، وللمد الواجب ميمًا صغيرة مع جزء من الدال (مد).
يقول الدالي (١٨) :((وبهذا وضع الخليل ثماني علامات: الفتحة، والضمة، والكسرة، والسكون، والشدة، والمدة، والصلة، والهمزة، وبهذه الطريقة أمكن أن يجمع بين الكتابة والإعجام والشكل بلون واحد)).
(٢) هو: ظالم بن عمرو الدؤلي الكناني، من سادات التابعين، شهد مع علي معركة صفين سنة ٣٧هـ، وهو أول من وضع علم النحو، وأول من نقط المصحف، توفي في طاعون عمواس سنة ٦٩هـ. ((خير الدين الزركلي: الأعلام، ط٣، ٣/٣٤٠)).
(٣) التوبة، آية ٣.
(٤) أبوالعباس أحمد بن علي القلقشندي: صبح الأعشى في صناعة الإنشا، نسخة مصورة عن الطبعة الأميرية بالقاهرة، ٣/١٥٦، وعبد الحي الفرماوي: قصة النقط والشكل في المصحف الشريف، مطبعة حسان بالقاهرة، ٥٩-٦٥، والدالي: مرجع سابق، ٥٥، والقاضي: مرجع سابق، ٧٤-٧٥.
(٥) القلقشندي: مرجع سابق، ٣/١٥١، والفرماوي: مرجع سابق، ٦٥.
(٦) الدالي: مرجع سابق، ٥٦، والفرماوي: مرجع سابق، ٦٥/٦٦، وخالد عبد الرحمن العك: تاريخ توثيق نص القرآن الكريم، ط٢ ١٤٠٦هـ/١٩٨٦م، دار الفكر بدمشق، ١١٢.
(٧) الدَّيونة: لعل المقصود بهم موظفو ديوان الإنشاء.
(٨) القلقشندي: مصدر سابق، ٣/١٥٨.
(٩) هو: نصر بن عاصم الليثي النحوي، المعروف بنصر الحروف، من قدماء التابعين، فقيهٌ عالمٌ بالعربية، يسند إلى أبي الأسود الدؤلي في القرآن والنحو، توفي سنة ٨٩هـ. ((الزركلي: مرجع سابق، ٨/٣٤٣)).
(١٠) هو: أبوسعيد يحيى بن يَعْمَر القيسي العدواني، من التابعين، يقول بتفضيل آل البيت، دون أي تنقيص لأحد من الصحابة، عالمٌ بالقرآن والنحو، توفي سنة ١٢٩هـ. ((المرجع نفسه ٩/٢٢٥)).
(١١) أبوالعباس شمس الدين أحمد بن محمد بن خلكان: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق إحسان عباس، دار الثقافة ببيروت، ٢/٣٢.
(١٢) كان النقط معروفاً قديماً عند اليهود، والسريان، والآكاديين، والآراميين، والنبط، وعُرف النقط عند العرب قبل كتابة المصاحف، إلا أن استعماله كان قليلاً؛ لعدم الحاجة إليه، حتى إنه كان معروفاً بعد ظهور الإسلام لدى الصحابة؛ فقد أثبتت الاكتشافات الأثرية ذلك في وثيقة بردي من أحد عمال عمرو بن العاص على ((أهناسة)) في مصر مؤرخة في سنة ٢٢هـ/٦٤١م، وفي نقش قرب الطائف في عهد معاوية بن أبي سفيان مؤرخ في سنة ٥٨هـ/٦٧٦م. ((الفرماوي: مرجع سابق، ٢٨، ٣٢، ٣٨)).
(١٣) القلقشندي: مصدر سابق، ٣/ ١٥٢-١٥٥، والدالي: مرجع سابق، ٦٠-٦٢، والفرماوي: مرجع سابق، ٧٢-٨٦.
(١٤) المرجع نفسه، ٨٠.
(١٥) المرجع نفسه، ٨٢-٨٥.
(١٦) المرجع نفسه، ٩٣.
(١٧) هو: الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي الأزدي، من أئمة اللغة والأدب، وواضع علم العروض، عاش فقيراً صابراً، وكان شعث الرأس شاحب اللون، متمزق الثياب، توفي سنة ١٧٠هـ/٧٨٦م. ((الزركلي: مرجع سابق، ٢/٣٦٣)).
(١٨) الدالي: مرجع سابق، ٦٢، وانظر الفرماوي: مرجع سابق، ٩٣-٩٤.