تجويد الخط
جاء في الفهرست: أنَّ أول مَن كتب المصاحف في الصدر الأول، ووصف بحسن الخط ((خالد بن أبي الهياج (١)) )، وكان كاتباً للوليد بن عبد الملك (٨٦-٨٩ هـ/٧٠٥-٧٠٨م)، كتب له المصاحف والأشعارَ والأخبار، وهو الذي كتب في قِبلة المسجد النبوي بالذهب من (والشمس وضحاها) إلى آخر القرآن، وكان عمر بن عبد العزيز مِمن اطّلع على خطّه وأعجب به، وطلب منه أن يكتب له مصحفًا تفنّن في خطه، فقلَّبه عمر واستحسنه إلا أنه استكثر ثمنه فرده عليه (٢).
ثم جاء بعده ((مالك بن دينار (٣)) )، وهو مولى لأسامة بن لؤي بن غالب (٤)، ويكنّى بأبي يحيى، واشتهر بتجويد الخط، وكتب المصاحف مقابل أجر كان يتقاضاه.
وممن اشتهر بتجويد الخط في العصر الأموي أيضًا ((قطبة المحرِّر (٥)) ) وهو من كتَّاب الدولة، يقول عنه ابن النديم: ((استخرج الأقلام الأربعة (٦)، واشتق بعضها من بعض، وكان قطبة من أكتب الناس على الأرض بالعربية)). وإليه ينسب تحويل الخط العربي من الكوفي إلى الخط الذي هو عليه الآن (٧).
أما في العصر العباسي، وفي خلافة أبي العباس السفاح (١٣٢-١٣٦ هـ/ ٧٤٩-٧٥٤م) فقد انتهت جودة الخط إلى ((الضحاك بن عجلان)) يقول ابن النديم (٨) :((فزاد على قطبة، فكان بعده أكتب الخلق)). وممن جوَّد الخطَ في عهدي المنصور (١٣٦-١٥٨ هـ / ٧٥٤-٧٧٥م) والمهدي (١٥٨- ١٦٩ هـ/٧٧٥-٧٨٥م) ((إسحاق بن حمَّاد)) الذي زاد في تجويده على ((الضحاك بن عجلان)).
وظل الخط العربي يرقى ويتنوع حتى وصل إلى عشرين نوعًا على رأس المائة الثالثة من الهجرة عندما انتهت رئاسة الخط إلى الوزير أبي علي محمد بن علي بن مقلة (٩)، وأخيه أبي عبد الله الحسن بن علي (١٠). يقول ابن النديم (١١) :((وهذان رجلان لم يُرَ مثلهما في الماضي إلى وقتنا هذا (١٢)، وعلى خط أبيهما مقلة كتبا.. وقد كتب في زمانهما جماعة، وبعدهما من أهلهما وأولادهما، فلم يقاربوهما، وإنما يندر للواحد منهما الحرف بعد الحرف، والكلمة بعد الكلمة، وإنما الكمال كان لأبي علي وأبي عبد الله.. ورأيت مصحفًا بخط جدهما مقلة)).
قام الوزير ابن مقلة بحصر الأنواع التي وصل إليها الخطُّ العربي في عصره إلى ستة أنواع هي: الثلث، والنسخ، والتوقيع، والريحان، والمحقق، والرقاع (١٣). وهو الذي أكمل ما بدأه قطبة المحرِّر من تحويل الخط الكوفي إلى الشكل الذي هو عليه الآن (١٤). وأول من قدَّر مقاييس وأبعاد النقط، وأحكم ضبطها وهندسها (١٥).
ومع نهاية القرن الرابع الهجري، وبداية القرن الخامس الهجري انتقلت رئاسة الخط العربي إلى أبي الحسن علي بن هلال الكاتب البغدادي المعروف بابن البواب، أو بابن الستري (١٦)، وكان حافظًا للقرآن، وكان يقال له: الناقل الأول (١٧) ؛ لأنه هذب وعظَّم وصحَّح خطوط ابن مقلة في النسخ والثلث اللذين قلبهما من الخط الكوفي (١٨)، واخترع ابن البواب عدَّة أقلام، وبلغ في جودة الخط مبلغًا عظيمًا، لم يبلغه أحد مثله (١٩).
وفي القرن السابع الهجري انتهت رئاسة الخط إلى عدد من الخطاطين منهم: ياقوت (٢٠) بن عبد الله الموصلي أمين الدين الملكي، المتوفى سنة ٦١٨ هـ، كاتب السلطان ملكشاه (٤٦٥-٤٨٥ هـ/ ١٠٧٢-١٠٩٢م)، وقد أخذ الخط عن الشيخة المحدِّثة الكاتبة ((شهدة بنت أحمد الإبَري الدينوري (٢١)) )، المتوفاة ببغداد سنة ٥٧٤ هـ، وهي ممن أخذ الخط عن ابن البواب، وكان ياقوت الموصلي مولعًا بنسخ معجم " الصحاح "، للجوهري، وكتب منه نسخًا كثيرة، باع النسخة بمائة دينار (٢٢).
ومنهم ياقوت بن عبد الله الرومي الحموي، شهاب الدين، المتوفى سنة ٦٢٦هـ (٢٣)، صاحب كتاب ((معجم البلدان))، وكتاب ((معجم الأدباء)) (٢٤).
ومنهم ياقوت بن عبد الله الرومي المُستَعْصِمي (٢٥)، المتوفى ببغداد سنة ٦٩٨ هـ، وهو من أشهر من جوَّد الخط في ذلك الزمن، قلَّد ابن مقلة، وابن البواب، وكان أديبًا شاعرًا خازنًا بدار الكتب المستنصرية. يقول عنه طاش كبري زاده (٢٦) :((وهو الذي طبق الأرض شرقًا وغربًا اسمه، وسار ذكره مسير الأمطار في الأمصار، وأذعن لصنعته الكل، واعترفوا بالعجز عن مداناة رتبته فضلا عن الوصول إليها؛ لأنه سحر في الكتابة سحرًا لو رآه السامري لقال: إن هذا سحر حلال)).
وكان ياقوت المستعصمي يمثل نهاية الاحتكار العراقي للخط المجوَّد المنسوب، حيث أخذت المراكز الثقافية الأخرى في العالم الإسلامي تنافس بغداد في الاهتمام بالخط وتجويده (٢٧).
ففي مصر عُرف تجويد الخط منذ عصر الدولة الطولونية (٢٥٤-٢٩٢ هـ/٨٦٨-٩٠٥م)، وفي العصر الفاطمي (٣٥٨-٥٦٧ هـ/٩٦٨-١١٧١م) وصلت إلى مستوى المنافسة مع بغداد عاصمة العباسيين، واستمرت كذلك في عصر الأيوبيين (٥٦٩-٦٥٠ هـ/ ١١٧٤-١٢٥٢م) إلى أن جاء العصر المملوكي (٦٤٨-٩٣٢ هـ/١٢٢٠-١٥١٧م)، حيث بلغت مركز الصدارة، وظهرت فيها كتبٌ تناولت نظريات فن الخط وتعليمه، مثل: مقدمة ابن خلدون، وصبح الأعشى للقلقشندي (٢٨).
وفي شمال الشام تطور فنُّ الخط منذ أواخر القرن الخامس الهجري، وأجاد السوريون الشماليون خط النسخ، وخطَّ الطومار ومشتقاته (٢٩).
وفي تركيا، حيث قامت الدولة العثمانية (٦٩٩-١٣٤١ هـ/١٢٩٩-١٩٢٢م) بلغت العناية بتجويد الخط حدًّا بعيدًا، وأنشئت في الآستانة سنة ١٣٢٦ هـ أول مدرسة خاصة لتعليم الخط والنقش والتذهيب (٣٠)، وطوَّروا ما أخذوه من مدارس سبقتهم في تجويد الخط؛ مثل: قلم الثلث والثلثين اللذين أخذوهما من المدرسة المصرية، وخط النسخ من السلاجقة، بل وزادوا على ذلك أقلامًا جديدة لأول مرة؛ مثل الرقعة، والديواني، وجلي الديواني، وتفردوا أيضًا بخط الطغراء، وهو في أصله توقيع سلطاني، وخط الإجازة وهو يجمع بين النسخ والثلث، والهمايوني، وهو خط مُوَلّد عن الديواني.
لم يتفوق الأتراك العثمانيون في الخط فقط، بل وفي تذهيب المصاحف وزخرفتها.
ولم يزل الأتراك ممسكين بزمام التفوق في تطور الخط العربي حتى سنة ١٣٤٢ هـ عندما استبدلوا بالحرف العربي الحرفَ اللاتيني، حيث انتقل قياد التفوق الخطي إلى مصر مرة أخرى (٣١).
فقد استقدم الملك فؤاد (١٣٣٥-١٣٥٥ هـ / ١٩١٧-١٩٣٦م) في سنة ١٩٢١م أشهر الخطاطين في الآستانة، وهو الشيخ محمد عبد العزيز الرفاعي (٣٢)، فكتب له مصحفًا في ستة شهور، وذهّبه وزخرفه في ثمانية شهور.
وفي منتصف شهر أكتوبر سنة ١٩٢٢م فُتحت مدرسةٌ لتعليم الخطوط العربية، وكان في مقدمة أساتذتها الشيخ محمد عبد العزيز الرفاعي، وقد تخرجت أول دفعة في هذه المدرسة في يونيه سنة ١٩٢٥م، وبعد فترة ألحق بها قسم في فن الزخرفة والتذهيب (٣٣).
استقطبت مصر عددًا من الخطاطين الأتراك منهم: عبد الله بك الزهدي (خطاط المسجد النبوي، المتوفى بمصر سنة ١٢٩٦ هـ)، ومحمد عبد العزيز الرفاعي، وأحمد كامل، تخرج على أيديهم عدد من الخطاطين المصريين، وغيرهم من مختلف البلاد الإسلامية (٣٤).
وفي إيران لم تكن العناية بالخط العربي، وكتابة المصاحف أقل منها في تركيا، ونبغ الإيرانيون في مجال التذهيب، حتى تفوقوا على الأتراك في هذا الفن، كما عرفوا خطوطًا خاصة بهم منها: خط الشكسته، وهو أقدم خط عرفه الفرس، وخط التعليق، وهو خط فارسي ظهر في أواخر القرن السابع الهجري، وخط النسخ تعليق الذي يجمع بين خطي النسخ والتعليق، الذي ظهر في القرن التاسع الهجري. وفي الوقت الذي أخذ فيه الأتراك عن الفرس خط التعليق وبرعوا فيه، فإن الفرس لم ينجحوا في إجادة الخط الديواني الذي أخذوه من الأتراك (٣٥). أما شمال إفريقية فقد انتقل الخط إليها عن طريق المدينة، ثم الشام (٣٦)، فعُرف الخط المغربي، وانتشر في شمال إفريقية ووسطها وغربها وفي الأندلس. ومن الخطوط التي ظهرت في هذا الجزء من العالم الإسلامي خط القيروان الذي اتخذ الخط الكوفي أساسًا له، وخط المهدية، وخط الأندلس الذي احتل المكانة الأولى في كل شمال إفريقية في أواخر عهد الموحدين (٥٢٤-٦٦٨ هـ/١١٣٠-١٢٦٩م)، ثم ظهر الخط الفاسي، ثم ظهر الخط السوداني الذي عرف اعتبارًا من القرن السابع الهجري (٣٧). وفي الجناح الشرقي من البلاد الإسلامية كان الغزنويون، والسلاجقة العظام لا يقلون اهتمامًا بالخط عن نظرائهم في البلاد الإسلامية الأخرى، ومثلهم في ذلك الإيلخانيون، والتيموريون، والجلائرون في القرنين السابع والثامن الهجريين (٣٨).
(٢) أبوالفرج محمد بن يعقوب إسحاق، المعروف بالوراق: الفهرست، تحقيق رضا تجدد بن علي زين العابدين الحائري المازندراني، طهران ١٣٩١هـ/١٩٧١م، ص ٩.
(٣) جاء في ((الأعلام)) (٦/١٣٤) مالك بن دينار البصري، أبويحيى، من رواة الحديث، كان ورعاً، يأكل من كسبه، ويكتب المصاحف بالأجرة، توفي في البصرة سنة ١٣١هـ/٧٤٨م.
(٤) توفي سنة ١٥٤هـ/٧٧٠م.
(٥) ابن النديم: مصدر سابق، ١٠.
(٦) لم يحدد ابن النديم هذه الأقلام، ولعل منها قلم الطومار الذي كان يعبِّر عن عرض القلم الجليل، المعروف قبل قطبة. انظر كتاب ((فن الخط العربي، مولده وتطوره، حتى العصر الحاضر، إعداد مصطفى اُغُور درمان، ترجمة صالح سعداوي، إشراف أكمل الدين إحسان أوغلي، ط١، استانبول ١٤١١هـ/١٩٩٠م، ١٩-٢٠)).
(٧) ابن النديم: مصدر سابق، ١٠.
(٨) المصدر نفسه، ١٠.
(٩) هو: أبو علي محمد بن علي بن حسين بن مقلة، ولد بعد عصر يوم الخميس لتسع بقين من شوال سنة ٢٧٢هـ، وكان وزيراً للمقتدر بالله، ثم القاهر بالله، ثم الراضي بالله، الذي مات في عهده محبوساً بعد أن قُطعت يده ولسانه، بسبب وشاية الحاجب ابن رائق، وذلك في يوم الأحد لعشرين خلون من شوال سنة ٣٢٨هـ. ((المصدر نفسه، ١٢، والدالي: مرجع سابق، ٦٦)).
(١٠) ولد فجر يوم الأربعاء سلخ شهر رمضان سنة ٢٧٨هـ، وتوفي في شهر ربيع الآخر سنة ٣٣٨هـ. ((ابن النديم: مصدر سابق، ١٢)).
(١١) المصدر نفسه، ١٢.
(١٢) توفي ابن النديم في يوم الأربعاء لعشرين بقين من شعبان سنة ٣٨٠هـ ببغداد.
(١٣) عفيفي: مرجع سابق، ١٠٢.
(١٤) الكردي: مرجع سابق، ٨٠، والدالي: مرجع سابق، ٦٦.
(١٥) الكردي: مرجع سابق، ٨٠.
(١٦) يقال له ((ابن الستري)) ؛ لأن أباه كان بواباً، والبواب يلازم ستر الباب، وتوفي ببغداد يوم الخميس ثاني جمادى الأولى سنة ٤٢٣هـ، وقيل سنة ٤١٣هـ، ودفن بجوار الإمام أحمد بن حنبل. ((ابن خلكان: مصدر سابق، ٣/٣٤٢-٣٤٤، وأبو الفدا الحافظ عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير: البداية والنهاية، ط١ دار أبي حيان بالقاهرة ١٤١٦هـ/١٩٩٦م، ١٢/٢١، والزركلي: مرجع سابق، ٥/١٨٣)).
(١٧) وقيل إن الناقل الأول، هو الحسن البصري، الذي أخذ الخط عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ((الدالي: مرجع سابق ٦٧)).
(١٨) المرجع نفسه، ٦٧.
(١٩) ابن خلكان: مصدر سابق، ٣/٣٤٢، وابن كثير: مصدر سابق، ١٢/٢١.
(٢٠) هو: ياقوت بن عبد الله الموصلي، أمين الدين، عُرف بالملكي نسبة إلى ملكشاه السلجوقي، توفي بالموصل سنة ٦١٨هـ/١٢٢١م. ((ابن كثير: مصدر سابق ١٣/١٢٨، وجمال الدين أبو المحاسن يوسف بن تغري بردي: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب المصرية، ٥/٢٨٣، والأعلام، ٩/١٥٦)).
(٢١) هي: فخر النساء شهدة بنت أبي نصر أحمد بن الفرج بن عمر الإبَري، كانت من العلماء، وكتبت الخط الجيد، وكان لها السماع العالي، توفيت ببغداد بعد عصر يوم الأحد ثالث عشر المحرم سنة ٧٥٤هـ، والإبَري، نسبة إلى الإبَر. ((ابن خلكان: مصدر سابق، ٢/٤٧٧-٤٧٨، والزركلي: مرجع سابق، ٣/٢٥٩)).
(٢٢) القلقشندي: مصدر سابق، ٣/٨٤، والدالي: مرجع سابق، ٢٦٧، والكردي: مرجع سابق، ٨٠.
(٢٣) هو: ياقوت بن عبد الله الرومي الجنس والمولد، الحموي المولى، البغدادي الدار، الملقب شها