قال ابن عباس رضي الله عنهما : معناه نعبدك ولا نعبد غيرك.
قال القرطبي : إن قيل : لم قدَّم المفعول ﴿ إِيَّاكَ ﴾ على الفعل ﴿ نَعْبُدُ ﴾ ؟ قيل له : اهتماماً، وشأنُ العرب تقديم الأهم، يُذكر أنْ أعرابياً سبّ آخر فأعرض المسبوب عنه، فقال له السابّ : إيّاك عني، فقال له الآخر : وعنك أُعرض، فقدّما الأهم، وأيضاً لئلا يتقدم ذكر العبد والعبادة على المعبود، فلا يجوز نعبدك، ونستعين، ولا نعبد إيّاك ونستعين إياك، وإنما يتبع لفظ القرآن، قال العجّاج :

إيّاك أدعو فتقبّل مَلَقي واغفر خطايايَ وكثّر ورقي
وكرّر الاسم لئلا يتوهم إيّاك نعبد ونستعين غيرك.
اللطيفة العاشرة : نسبَ النعمة إلى الله عزّ وجل ﴿ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ ولم ينسب الإضلال والغضب فلم يقل :( غضبت عليهم ) وأضللتهم، وذلك جارٍ على طريق تعليم الأدب مع الله عزّ وجل، حيث لا ينسب الشرّ إليه ( أدباً ) وإن كان منه ( تقديراً ) كما قال بعضهم : الخير كله بيديك، والشرّ ليس إليك.
فهو كقوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام :﴿ الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴾ [ الشعراء : ٧٨-٨٠ ] فلم يقل :( وإذا أمرضني ) أدباً. وكقوله تعالى على لسان مؤمني الجن :﴿ وَأَنَّا لاَ ندري أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرض أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً ﴾ [ الجن : ١٠ ] فلم يقولوا : أشرّ أراد الله فتدبره فإنه دقيق.
الدقائق البيانية في سورة الفاتحة
قال أبو حيان في تفسيره « البحر المحيط » :« وقد انجرّ في غضون تفسير هذه السورة الكريمة من علم البيان فوائد كثيرة لا يهتدي إلى استخراجها إلاّ من كان توغّل في فهم لسان العرب، ورُزق الحظّ والوافر من علم الأدب، وكان عالماً بافتتان الكلام، قادراص على إنشاء النثار البديع والنظام، وفي هذه السورة الكريمة من أنواع الفصاحة والبلاغة أنواع :
النوع الأول : حسنُ الافتتاح وبراعة المطلع، وناهيك حسناً أن يكون مطلعها مفتتحاً باسم الله، والثناء عليه بما هو أهله من الصفات العليّة.
النوع الثاني : المبالغة في الثناء وذلك العموم ( أل ) في الحمد المفيد للاستغراق.
النوع الثالث : تلوين الخطاب في قوله :﴿ الحمد للَّهِ ﴾ إذ صيغته الخبر ومعناه الأمر أي قولوا : الحمد لله.
النوع الرابع : الاختصاص باللاّم التي في ( لله ) إذ دلّت على أنّ جميع المحامد مختصة به تعالى إذ هو مستحق لها جلّ وعلا.
النوع الخامس : الحذف وذلك كحذف ( صراط ) من قوله تعالى :﴿ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين ﴾ التقدير : غير صراط المغضوب عليهم، وغير صراط الضالين.
النوع السادس : التقديم والتأخير في قوله :﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ وكذلك في قوله :﴿ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين ﴾ وقد تقدم الكلام على ذلك.
النوع السابع : التصريح بعد الإبهام وذلك في قوله تعالى :﴿ اهدنا الصراط المستقيم * صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ حيث فسّر الصراط.
النوع الثامن : الإلتفات وذلك في قوله :﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهدنا الصراط المستقيم ﴾.


الصفحة التالية
Icon