واستدل بما روي عن ابن مسعود أنه أفتى رجلاً لدغ بأنه محصر وأمره أن يحل.
وحجة الجمهور أن الله تعالى ذكر في الآية قوله :﴿ فَإِذَآ أَمِنتُمْ ﴾ وهو يدل على أنه حصر العدو لا حصر المرض، ولو كان من المرض لقال :( فإذا برأتم ) ولقول ابن عباس : لا حضر إلا حصر العدو، فقيّد إطلاق الآية وهو أعلم بالتنزيل.
الترجيح : ولعلّ ما ذهب إليه الحنفية يكون أرجح، فهو الموافق لظاهر الآية الكريمة، والموافق ليسر الإسلام وسماحته، وقد اعتضد بأقوال أهل اللغة، فإنهم جميعاً متفقون على أن ( الإحصار ) يكون بالمرض، و ( الحصر ) يكون بالعدو، والآية بظاهرها تميل إلى التيسير، فإن المريض الذي يشتد مرضه كيف يمكنه إتمام المناسك! والشخص الذي تضل راحلته، أو تضيع نقوده كيف يستطيع متابعة السفر، مع أنه لم يعد يملك نفقة ولا زاداً؟ وهل يكلفه الإسلام أن يستجدي من الناس؟!
وهذا الذي رجحناه هو الذي اختاره شيخ المفسرين ( ابن جرير الطبري ) رحمه الله حيث قال ما نصه :« وأولى التأويلين بالصواب في قوله :﴿ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ ﴾ تأويل من تأوله بمعنى : فإن أحصركم خوف عدو، أو مرض، أو علة من الوصول إلى البيت، أي صيّركم خوفكم أو مرضكم تحصرون أنفسكم. ولو كان معنى الآية ما ظنه المتأول من قوله :﴿ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ ﴾ فإن حبسكم حابسٌ من العدو عن الوصول إلى البيت، لوجب أن يكون : فإن حصرتم ».
أقول ويؤيده ما روي في « الصحيحين » عن عائشة رضي الله عنها قالت :« دخل النبي ﷺ على ضُباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، فقالت : يا رسول الله إني أريد الحج وأنا شاكية، فقال النبي ﷺ حُجّي واشترطي أن مَحَلّي حيث حبستني » فقد دل على أن المرض من الأسباب المبيحة للتحلل، وهذا ما يتفق مع سماحة الإسلام ويسر أحكامه.
الحكم الثالث : ماذا يجب على المحصر، وأين موضع ذبح الهدي؟
الآية الكريمة صريحة في أن على ( المحصر ) أن يذبح الهدي لقوله تعالى :﴿ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا استيسر مِنَ الهدي ﴾ وأقله شاة، والأفضل بقرة أو بدنة، وإنما تجزئ الشاة لقوله تعالى :﴿ فَمَا استيسر ﴾ وهذا رأي جمهور الفقهاء، وروي عن ابن عمر أنه قال : بدنة أو بقرة ولا تجزئ الشاة، والصحيح رأي الجمهور.
وأما المكان : الذي يذبح فيه هدي الإحصار فقد اختلف العلماء فيه على أقوال :
فقال الجمهور ( الشافعي ومالك وأحمد ) : هو موضع الحصر، سواءً كان حلاً أو حرماً.
وقال أبو حنيفة : لا ينحره إلا في الحرم لقوله تعالى :﴿ ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق ﴾ [ الحج : ٣٣ ].
وقال ابن عباس : إذا كان يستطيع البعث به إلى الحرم وجب عليه، وإلاّ ينحره في محل إحصاره.


الصفحة التالية
Icon