وذلك من الخطة الحكيمة التي انتهجها الإسلام في معالجة الأمراض الاجتماعية، فقد سلك بالناس طريق ( التدريج في تشريع الأحكام ) فبدأ بالتنفير مه بطريق غير مباشر كما في الآية الأولى، ثم بالتنفير المباشر عن طريق المقارنة بين شيئين : شيء فيه نفع ضئيل، وشيء فيه ضرر وخطر جسيم، كما في الآية الثانية، ثم بالتحريم الجزئي في أوقات الصلاة كما في الآية الثالثة، ثم بالتحريم الكلي في جميع الأوقات كما في الآية الرابعة، فللَّه ما أدق هذا التشريع وما أحكمه؟!
اللطيفة الثالثة : فإن قيل : كيف يكون في الخمر منافع، مع أنها تذهب بالمال والعقل؟
فالجواب أن المراد بالمنافع في الآية ( المنافع المادية ) التي كانوا يستفيدونها من تجارة الخمر، يربحون منها الربح الفاحش، كما يربحون من وراء الميسر، ومما يدل على أن النفع مادي أن الله تعالى قرنها بالميسر ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر ﴾ ولا شك أن النفع في الميسر ( مادي ) بحت حيث يكون الربح لبعض المقامرين فكذلك في الخمر.
قال العلامة القرطبي :« أمّا المنافع في الخمر فربح التجارة، فإنهم كانوا يجلبونها من الشام برخص، فيبيعونها في الحجاز بربح، وكانوا لا يرون المماكسة فيها، فيشتري طالب الخمر الخمر بالثمن الغالي، هذا أصح ما قيل في منافعها ».
ويحتمل أن يراد النفع في الخمر تلك اللذة والنشوة المزعومة التي عبرّ عنها الشاعر بقوله :
ونشربها فتتركنا ملوكاً... وأُسْداً ما ينهنها اللقاء
لا يلذ السّكْر حتّى... يأكل السكرانُ نعلَه
ويرى القصعة فيلاً... ويظنَّ الفيل نملة
اللطيفة الرابعة : أثمن وأغلى شيء في الإنسان عقله، فإذا فقد الإنسان العقل أصبح كالحيوان، ولهذا حرم الله الخمر وسميت ب ( أم الخبائث ) لأنها سبب في كل قبيح.
روى النسائي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال :« اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث، إنه كان رجل ممن كان قبلكم متعبّد فعلقته امرأة غوية، فأرسلت إليه جاريتها فقالت له : إنّا ندعوك للشهادة، فانطلق مع جاريتها، فطفقت كلما دخل باباً أغلقته دونه، حتى أفضى إلى امرأة وضيئة عندها غلام وباطيةُ خمر، فقالت : إني والله ما دعوتك للشهادة، ولكن دعوتك لتقع عليّ، أو تشرب من هذه الخمر كأساً، أو تقتل هذا الغلام، قال : فاسقيني من هذه الخمر كأساً، فسقته كأساً قال : زيدوني فزادوه، فلم يبرح حتى وقع عليها، وقتل النفس، فاجتنبوا الخمر فإنه والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر، إلا يوشك أن يُخْرج أحدُهما صاحبه ».
اللطيفة الخامسة : قال ( قيس بن عاصم المِنْقري ) في ذم الخمر بعد أن حرّمها على نفسه :
رأيت الخمر صالحة وفيها... خصالٌ تُفسد الرجل الحليما
فلا والله أشربها صحيحاً... ولا أشفي بها أبداً سقيماً
ولا أعطي بها ثمناً حياتي... ولا أدعو لها أبداً نديماً
فإن الخمر تفضح شاربيها... وتجنيهم بها الأمر العظيما
قال القرطبي :« وإن الشارب يصير ضُحكة للعقلاء، فيلعب ببوله وعذرته وربما يمسح وجهه، حتى رؤي بعضهم يمسح وجهه ببوله ويقول : اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين، ورؤي بعضهم والكلب يلحس وجهه وهو يقول له : أكرمك الله كما أكرمتني ».