اللطيفة الثانية : قيّد الله التربص في هذه الآية بذكر الأنفس بقوله :﴿ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ﴾ ولم يذكره في الآية السابقة ﴿ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ﴾ [ البقرة : ٢٢٦ ] فما هي الحكمة؟
والجواب؟ أنّ في ذكر الأنفس هنا تهييجاً لهنّ على التربص وزيادة بعث لهنّ على قمع نفوسهن عن هواها وحملها على الانتظار، لأن أنفس النساء طوامح إلى الرجال فأراد الله تعالى أن يقمعن أنفسهن، ويغالبن الهوى بامتثال أمر الله لهن بالتربص، والمخاطب في الآية السابقة الرجال فلم يوجد ذلك الداعي إلى التقييد فتدبر ذلك السرّ الدقيق.
اللطيفة الثالثة : قوله تعالى :﴿ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الآخر ﴾ شرطٌ جوابه محذوف دلّ عليه ما سبق، وليس الغرض منه التقييد بالإيمان حتى يخرج الكتابيات بل هو للتهييج وتهويل الأمر في نفوسهن، وهذه طريقة متعارفة في الخطاب، تقول : إن كنت مؤمناً فلا تؤذ أباك، وإن كنت مسلماً فلا تغشّ الناس، فهذه هي النكتة في التعبير.
اللطيفة الرابعة : قوله تعالى :﴿ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ... ﴾ الآية أي أحق برجعتهن.
قال الإمام الفخر : الحكمة في إثبات حق الرجعة أن الإنسان ما دام مع صاحبه لا يدري هل تشق عليه المفارقة أو لا؟ فإذا فارقه فعند ذلك يظهر، فلو جعل الله الطلقة الواحدة مانعة من الرجوع لعظمت المشقة على الإنسان، إذ قد تظهر المحبة بعد المفارقة، ثم لمّا كان كمال التجربة لا يحصل بالمرة الواحدة، أثبت تعالى حق المراجعة بعد المفارقة مرتين، وهذا التدريج والترتيب يدل كمال رحمته تعالى ورأفته بعباده.
اللطيفة الخامسة : قوله تعالى :﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ بالمعروف ﴾ فيه إيجاز وإبداع، لا يخفى على المتمكن من علوم البيان، فقد حذف من الأول بقرينة الثاني، ومن الثاني بقرينة الأول، كأنه قيل : لهنّ على الرجال من الحقوق، مثل الذي للرجال عليهن من الحقوق والواجبات، وفيه من علم البديع ما يسمى ب ( الطباق ) بين لفظَيْ ( لهنّ ) و ( عليهن ) وهو طباق بين حرفين، وقد وضّح عليه السلام بعض هذه الحقوق في ( حجة الوداع ) بقوله :« ألا إنّ لكم على نسائكم حقاً، ولنسائكم عليكم حقاً، فحقكم عليهن ألاّ يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذنّ في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحقهنّ عليكم أن تحسنوا إليهنّ في كسوتهن وطعامهن ».
وعن ابن عباس أنه قال :« إني لأحبّ أن أتزين لامرأتي كما تتزين لي، لأن الله تعالى يقولك ﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ ﴾ ».
اللطيفة السادسة : الدرجة التي أشارت إليها الآية الكريمة ﴿ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ والله ﴾ ليست درجة ( تشريف ) وإنما هي درجة ( تكليف ) وقد بينتها الآية الثانية في سورة النساء وهي القوامة والمسؤولية والإنفاق