﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهتدى ﴾ [ طه : ٨٢ ].
سبب النزول
روي أن ناساً من عرينة قدموا المدينة فاجتووها، فبعثهم رسول الله ﷺ إلى إبل الصدقة، وأمرهم أن يشربوا من ألبانها وأبوالها، ففعلوا فصحوا، وارتدوا عن الإسلام وقتلوا الراعي، واستاقوا الإبل، فأرسل رسول الله ﷺ في آثارهم، فجيء بهم فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمّر أعينهم، وألقاهم بالحرة حتى ماتوا فنزلت هذه الآية ﴿ إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ... ﴾ الآية.
وجه الارتباط بالآيات السابقة
بعد أن ذكر تبارك وتعالى قصة ( قابيل وهابيل ) ابني آدم عليه السلام، وأبان فظاعة جُرم القتل، وشدّد في تبعة القاتل فذكر أن من قتل نفساً بغير حق فكأنما قتل الناس جميعاً، ذكر تعالى هنا العقاب الذي يؤخذ به المفسدون في الأرض، حتى لا يتجرأ غيرهم على مثل فعلهم، وأوضح عقوبة السارق أيضاً لأنها نوع من إخلال الأمن في الأرض، وضربٌ من ضروب الإفساد، وقد شرع الله جل وعلا الحدود لتكون زواجر للناس عن ارتكاب الجرائم، فناسب ذكر ( حد السرقة ) و ( حد قطع الطريق ) بعد ذكر جريمة القتل.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : ذكرُ المحاربة لله عزّ وجل ﴿ يُحَارِبُونَ الله ﴾ مجاز، إذ الله سبحانه وتعالى لا يُحارب ولا يُغالب، لما له من صفات الكمال، وتنزهه عن الأضداد والأنداد، فالكلام على ( حذف مضاف ) أي يحاربون أولياء الله، فعبّر بنفسه العزيزة عن أوليائه إكباراً لإذايتهم، كما عبّر بنفسه عن الفقراء والضعفاء في قوله :﴿ مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً ﴾ [ البقرة : ٢٤٥ ] حثاً على الاستعطاف عليهم، ومثله ما ورد في صحيح السنة « ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني ».
اللطيفة الثانية : النفي من الأرض كما يكون بالطرد والإبعاد، يكون بالحبس، فقد روي عن مالك أنه قال : النفي السجن، ينفى من سعة الدنيا إلى ضيقها، فكأنه إذا سجن نفي من الأرض، لأنه لا يرى أحبابه، ولا ينتفع بشيء من لذائذ الدنيا وطيباتها.
قال الإمام الفخر : ولما حبسوا ( صالح بن عبد القدوس ) في حبس ضيّق على تهمة الزندقة وطال مكثه أنشد :

خرجنا عن الدنيا وعن وصل أهلها فلسنا من الأحيا ولسنا من الموتى
إذا جاءنا السجّان يوماً لحاجة عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا
اللطيفة الثالثة : قال الزمخشري : قوله تعالى :﴿ لِيَفْتَدُواْ بِهِ ﴾ هذا تمثيلٌ للزوم العذاب لهم، وأنه لا سبيل لهم إلى النجاة منه بوجه، وعن النبي ﷺ أنه قال :« يقال للكافر يوم القيامة : أرأيتَ لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنتَ تفتدي به؟ فيقول : نعم، فيقال له : قد سئلت أيسر من ذلك، ألا تشرك بي شيئاً فأبيت ».


الصفحة التالية
Icon