وجه المناسبة بين الآيات الكريمة
مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر البراءة من المشركين، وأنواعاً من قبائحهم وجرائمهم التي توجب البراءة منهم، ذكروا أنهم موصوفون بصفات حميدة تعلي مقامهم وترفع مكانتهم، منها سقايتهم للحاج وعمارتهم للمسجد الحرام فردّ الله عليهم بهذه الآيات الكريمة.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : أطلق المساجد وأراد به المسجد الحرام على رأي بعض المحققين، وعبّر عنه بالجمع لأنه قبلة المساجد وإمامها، فهو من باب إطلاق العموم وإرادة الخصوص.
اللطيفة الثانية : العلة الحقيقية في منع المشركين من عمارة بيوت الله، هي نفس الكفر لا الشهادة به، ونكتة تقييده بها أنه كفر صريح لا تمكن المكابرة به، لأنه كفرٌ مقرون بالإقرار، وهو قولهم في الطواف :( لبيّك لا شريك لك، إلاّ شريكاً هو لك، تملكه وما ملك ) ونصبهم الأوثان والأصنام حول البيت العتيق.
اللطيفة الثالثة : قال أبو حيان : أمرُ المؤمنين بعمارة المساجد، يتناول عمارتها، ورمّ ما تهدم منها، وتنظيفها، وتعظيمها، واعتيادها للعبادة والذكر - ومن الذكر دراسة العلم - وصونها عمّا لم تبنَ له من الخوض في أحوال الدنيا، وفي الحديث الشريف :« إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان ».
اللطيفة الرابعة : التعبير بقوله تعالى :﴿ فعسى أولئك أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين ﴾ في جانب المؤمنين، يؤخذ منه قطع طماعية المشركين في الانتفاع بأعمالهم التي استعموها وافتخروا بها، حيث بيّن تعالى أن حصول الإهتداء لمن آمنوا بالله ولم يخشوا غيره دائرٌ بين ( لعلّ ) و ( عسى ) وإذا كان هذا حال المؤمنين، فكيف يطمع المشركون بالهداية والفوز وهم على ما هم عليه من كفر وإشراك؟!
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : ما المراد بعمارة المساجد في الآية الكريمة؟
ذهب بعض العلماء إلى أن المراد بعمارة المساجد هو بناؤها وتشييدها وترميم ما تهدم منها، وهذه هي ( العمارة الحسية ) ويدل عليه قوله عليه السلام :« من بنى الله مسجداً ولو كمِفْحَص قطاة بني الله له بيتاً في الجنة ».
وقال بعضهم : المراد عمارتها بالصلاة والعبادة وأنواع القربات كما قال تعالى :﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه ﴾ [ النور : ٣٦ ] وهي هي ( العمارة المعنوية ) التي هي الغرض الأسمي من بناء المساجد، ولا مانع أن يكون المراد بالآية النوعين ( الحسية ) و ( المعنوية ) وهو اختيار جمهور العلماء لأن اللفظ يدل عليه، والمقام يقتضيه.
قال أبو بكر الجصاص :« وعمارة المسجد تكون بمعنيين : أحدهما : زيارته والمكث فيه، والآخر : بناؤه وتجديد ما استرم منه، وذلك لأنه يقال : اعتمر إذا زار، ومنه العمرة لأنها زيارة البيت، وفلان من عُمّار المساجد إذا كان كثير المضيّ إليها، فاقتضت الآية منع الكفار من دخول المساجد، ومن بنائها، وتولّي مصالحها، والقيام بها لانتظام اللفظ للأمرين ».
الحكم الثاني : ما المراد بالمساجد في الآية الكريمة؟
١ - قال بعض العلماء : المراد به المسجد الحرام لأنه المفرد العلم، الأكمل الأفضل وهو قبلة المساجد، وسبب النزول يؤيد هذا القول وهو مروي عن عكرمة، واختاره بعض المحققين لقراءة الإفراد ( أن يعمروا مسجد الله ).


الصفحة التالية
Icon