﴿ وَلَكُمْ فِي القصاص حياوة ياأولي الألباب لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [ البقرة : ١٧٩ ].
ومن هذه الأحكام والحدود التي شرعتها لكم، أن تجلدوا كلاً من الزانيين مائة جلدة، تستوفونها منهما كاملة دون رحمة أو شفقة، ودون تخفيف من العقاب، أو إنقاصٍ من الحد، فإن ( جريمة الزنى ) أخطر وأعظم من أن تستدر العطف أو تدفع إلى العفو عن مرتكب هذه الجريمة النكراء، فإن من عرف آثارها وأضرارها من تدنيسٍ للعرض والشرف، وضياع للأنساب، واعتداء على كرامة الناس، وتلطيخ لهم بالعار والشنار وتعريض للأولاد للتشرد والضياع، حيث يولد ( اللقيط ) وهو لا يدري أباه، ولا يعرف حسبه ونسبه - إلى غير ما هنالك من أضرار - من عرف ذلك أدرك حكة الله تعالى في تشريع هذا العقاب الزاجر الصارم. وليس هذا فحسب بل لا بد أن تشهدوا على هذه العقوبة لتكون زجراً له ولأفراد المجتمع من اقتراف مثل هذا المنكر الشنيع، فتحصل العظة والعبرة... ﴿ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين ﴾.
ثم بين تعالى أن الزاني لا يليق به أن ينكح المؤمنة العفيفة الشريفة إنما ينكح مثله أو أخسّ منه، ينكح الزانية الفاجرة أو المشركة الوثنية، ولا عجب فإن الفاسق الخبيث لا يرغب غالباً إلا في فاسقة من شكله أو مشركة، والزانيةُ الخبيثة كذلك لا يرغب فيها إلا خبيث مثلها أو مشرك. فالنفوس الطاهرة تأبى مثل هذا الزواج بالفواجر الفاسقات وصدق الله :﴿ الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ والخبيثون لِلْخَبِيثَاتِ والطيبات لِلطَّيِّبِينَ والطيبون لِلْطَّيِّبَاتِ ﴾ [ النور : ٢٦ ].
وقد حرم الله الزنى لما فيه من أضرار عظيمة، ومخاطر جسيمة تودي بحياة الأفراد والجماعات، وتقوّض بنيان المجتمعات، وتعرِّض الأولاد للتشرد والضياع.
سبب النزول
رُويَ في سبب نزول الآية الكريمة ﴿ الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً ﴾ عدة أسباب ذكرها المفسرون ونحن ننقل أجمعها وأصحها وهي كالآتي :
أولاً - روى أن رجلاً يقال له ( مرثد الغنوي ) كان يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة، وكانت امرأة بغّي بمكة يقال لها ( عَنَاق ) وكانت صديقة له، وأنه وعد رجلاً من أسارى مكة أن يحمله، قال : فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة، فجاءت ( عَنَاق ) فأبصرتْ سوادَ ظلي تحت الحائط، فلما انتهت إليّ عرفتني فقالت : مرثد؟ فقلت : مرثد، فقالت : مرحباً وأهلاً هلمّ فبت عندنا الليلة، فقلتُ يا عناق : قد حرَّم الله تعالى الزنى، فنادت يا أهل الخيام : هذا الرجل يحمل أسراكم، قال : فتبعني منهم ثمانية، فانتهيت إلى غار فجاءوا حتى قاموا على رأسي وبالوا، حتى ظلّ بولهم على رأسي، وأعماهم الله تعالى عني، ثم رجعوا ورجعتُ إلى صاحبي فحملته حتى قدمت المدينة، فأتيت رسول الله ﷺ فقلت يا رسول الله : أأنكح عناقاً؟ فأمسك فلم يردّ عليَّ شيئاً فأنزل الله ﴿ الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ﴾ الآية فقرأها عليَّ الرسول، ثم قال يا مرثد : لا تَنكحها.