وأما ثالثاً : فلأن ما نُقل عن بعضهم غير صحيح، لأنّ إفتاء المفتي بوجوب القَوَد أو عدمه لا يستلزم معرفته علم السحر، لأن صورة إفتائه - على ما ذكره العلامة ابن حجر - إنْ شهد عدلان عرفا السحر وتابا منه أنه يقتل غالباً قُتل الساحر، وإلاّ لم يُقتل.
وقال أبو حيان : وأما حكم السحر، فما كان منه يُعظّم به غير الله من الكواكب، والشياطين، وإضافة ما يُحدثه الله إليها فهو كفر إجماعاً، لا يحلّ تعلمه ولا العمل به، وكذا ما قصد بتعلمه سفك الدماء، والتفريق بين الزوجين والأصدقاء.
وأما إذا كان لا يعلم منه شيء من ذلك بل يحتمل فالظاهر أنه لا يحل تعلمه، ولا العمل به، وما كان من نوع التخييل، والدّجل، والشعبذة فلا ينبغي تعلمه لأنه من باب الباطل، وإن قصد به اللهو واللعب وتفريج الناس على خفة صنعته فيكره.
الحكم الثالث : هل يُقتل الساحر؟
قال أبو بكر الجصاص : اتفق السلف على وجوب قتل الساحر، ونصَّ بعضهم على كفره لقوله ﷺ :« من أتى كاهناً أو عرافاً أو ساحراً فصدّقه بما يقول، فقد كفر بما أُنزل على محمد ».
واختلف فقهاء الأمصار في حكمه :
فروي عن أبي حنيفة أنه قال : الساحرُ يُقتل إذا عُلم أنه ساحر ولا يستتاب، ولا يقبل قوله إني أترك السحر منه، فإذا أقر أنه ساحر فقد حلّ دمه، وكذلك العبد المسلم، والحر الذميّ من أقر منهم أنه ساحر فقد حلّ دمه، وهذا كله قول أبي حنيفة.
قال ابن شجاع : فحَكَمَ في الساحر والساحرة حكم المرتد والمرتدة، وقال - نقلاً عن أبي حنيفة - إنّ الساحر قد جمع مع كفره السعيَ في الأرض بالفساد، والساعي بالفساد إذا قتَلَ قُتل.
وروي عن مالك في المسلم إذا تولّى عمل السحر قتل ولا يستتاب، لأنّ المسلم إذا ارتد باطناً لم تعرف توبته بإظهاره الإسلام، فأمّا ساحر أهل الكتاب فإنه لا يقتل عند مالك إلاّ أن يضر المسلمين فيقتل.
وقال الشافعي : لا يكفر بسحره، فإن قتَل بسحره وقال : سحري يقتل مثله، وتعمدت ذلك قتل قوداً، وإن قال : قد يقتل، وقد يخطئ لم يُقتل وفيه الدية.
وقال الإمام أحمد : يكفر بسحره قتل به أو لم يقتل، وهل تقبل توبته؟ على روايتين، فأمّا ساحر أهل الكتاب فإنه لا يُقتل إلا أن يضر بالمسلمين.
والخلاصة : فإنّ أبا حنيفة يذهب إلى كفر الساحر، ويبيح قتله ولا يستتاب عنده، والساحر الكتابي حكمه كالساحر المسلم. والشافعي يقول : بعدم كفره ولا يقتل عنده إلا إذا تعمّد القتل.


الصفحة التالية
Icon