وقد حبس عمر رضي الله عنه الحطيئة لما قال :

دع المكارمَ لا تَرْحل لبغيتها واقعد فإنك أنتَ الطّاعمُ الكاسي
لأنه شبهه بالنساء في أنهن يطعمن ويسقين ويكسون.
قال القرطبي : والدليل لما قاله ( مالك ) هو أن موضوع الحد في القذف إنما هو لإزالة المعرّة التي أوقعها القاذف بالمقذوف فإذا حصلت المعرة بالتعريض وجب أن يكون قذفاً وقد قال تعالى حكاية عن مريم ﴿ ياأخت هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً ﴾ [ مريم : ٢٨ ] فمدحوا أباها ونفوا عن أمها البغاء. وعرّضوا لمريم بذلك ولذلك قال تعالى :﴿ وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً ﴾ [ النساء : ١٥٦ ] وكفرُهم معروف، والبهتانُ العظيم هو التعريض لها أي ما كان أبوك امرأ سوء، وما كانت أمك بغيا، أي وأنت بخلافهما وقد أتيت بهذا الولد.
دليل الشافعية والأحناف :
استدل الشافعي وأبو حنيفة بأن التعريض بالقذف محتمل للقذف ولغيره، والاحتمال شبهة والحدود تدرأ بالشبهات كما ورد في الحديث :( ادرءوا الحدود بالشبهات ).
وقالوا : إن الله تعالى قد فرّق بين ( التصريح ) و ( التعريض ) في عدة المتوفى عنها زوجها، فحرم التصريح بالخطبة، وأباح التعريض بقوله تعالى :﴿ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النسآء ﴾ [ البقرة : ٢٣٥ ] الآية.
فدل على أنهما ليسا في الحكم سواء... وروي عن الإمام أحمد رحمه الله روايتان : إحادهما أن التعريض ليس بقذف ولا حد فيه. والثانية : أنه قذف في حال الغضب دون حال الرضا.
ومما يدل على ما ذهب إليه ( الشافعية والأحناف ) ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبي ﷺ إن امرأتي ولدت غلاماً أسود، فقال : هل لك من إبل؟ قال : نعم، قال : ما ألوانها قال حمر، قال : فهل فيها أورق؟ قال : نعم، قال : فكيف ذاك؟ قال لعله نزعه عرق؟ قال : فلعل هذا نزعه عرق فلم يعتبر هذا قذفاً مع أنه تعريض بزنى الزوجة.
الحكم الخامس : ما هو حكم قاذف الجماعة؟
اختلف الفقهاء في حكم من قذف جماعة على ثلاثة مذاهب :
أ- المذهب الأول : مذهب القائلين بأن يحد حداً واحداً وهم الجمهور ( أبو حنيفة ومالك وأحمد ).
ب- المذهب الثاني : مذهب القائلين بأن عليه لكل واحد حداً وهم ( الشافعي والليث ).
ج- المذهب الثالث : مذهب الذين فرقوا بين أن يجمعهم في كلمة واحدة مثل أن يقول لهم : يا زناة أو يقول لكل واحد يا زاني. ففي الصورة الأولى يحد حداً واحداً، وفي الثانية عليه لك واحد منهم حد، وهو مذهب ( ابن أبي ليلى، والشعبي ).
دليل الجمهور : احتج أبو بكر الرازي على قول الجمهور بالكتاب والسنة، والقياس.
أما الكتاب : فقوله تعالى :﴿ والذين يَرْمُونَ المحصنات ﴾ والمعنى أن كل من رمى المحصنات وجب عليه الجلد وذلك يقتضي أن قاذف الجماعة من المحصنات لا يجلد أكثر من ثمانين فمن أوجب على قاذف جماعة المحصنات أكثر من حد واحد فقد خالف الآية.


الصفحة التالية
Icon