أدلة الجمهور :
وأما الجمهور فقد استدلوا على قبول شهادته بما يلي : أولاً : قالوا : إنّ التوبة تمحو الذنب، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، فوجب أن يكون القاذف بعد التوبة مقبول الشهادة.
ثانياً : إنّ الكفر أعظم جرماً من القذف، والكافر إذا تاب تقبل شهادته فكيف لا تقبل شهادة المسلم إذا قذف ثم تاب؟ وقد قال الشافعي رحمه الله : عجباً يقبل الله من القاذف توبته وتردُّون شهادته.
ثالثاً : ما روي في حادثة ( المغيرة بن شعبة ) أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ضرب الحد الذين شهدوا على المغيرة وهم ( أبو بكر، ونافع، ونفيع ) حين قذفوه ثم قال لهم من أكذب نفسه قبلتُ شهادته ومن لم يفعل لم أجز شهادته، فأكذب ( نافع ونفيع ) أنفسهما وكان عمر يقبل شهادتهما، وأما ( أبو بكرة ) فكان لا يقبل شهادته ولم ينكر عليه أحد من الصحابة.
رابعاً : وقالوا : إن الاستثناء في الآية الكريمة كان ينبغي أن يرجع إلى الكل ولكن لما كان ( الجلد ثمانين ) من أجل حق المقذوف وكان هذا الحق من حقوق العباد لم يسقط بالتوبة، فبقي رد الشهادة والحكم بالفسق وهما من حق الله فيسقطان بالتوبة.
يقول العلامة المودودي في « تفسير سورة النور » بعد أن ساق أدلة الفريقين :
فرأيُ الطائفة الأولى هو الأرجح عندي في هذه القضية فإن حقيقة توبة المرء لا يعلمها إلا الله. ومن تاب عندنا فإن غاية ما لنا أن نجامله به هو أن لا نسميه ( الفاسق ) ولا نذكره بالفسق وليس من الصحيح أن نبالغ في مجاملته، حتى نعود إلى الثقة بقوله لمجرد أنه قد تاب عندنا في ظاهر الأمر.
وزد على ذلك أن أسلوب عبارة القرآن بنفسه يدل دلالة واضحة على أن العفو المذكور في جملة ﴿ إِلاَّ الذين تَابُواْ... وَأَصْلَحُواْ ﴾ إنما يرجع إلى جملة ﴿ وأولئك هُمُ الفاسقون ﴾ لأن جلد القاذف ثمانين جلدة وعدم قبول شهادته جاء ذكرهما في العبارة بصيغة الأمر ﴿ فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً ﴾ وجاء الحكم عليه بالفسق بصيغة الخبر ﴿ وأولئك هُمُ الفاسقون ﴾ فإذا جاء قوله تعالى :﴿ إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ بعد هذا الحكم الثالث مقترناً به فهو يدل بنفسه على أن هذا الاستثناء إنما يرجع إلى الجملة الخبرية الأخيرة ولا يرجع إلى جملتي الأمر الأوليين.. وليست التوبة عبارة عن تلفظ الإنسان بها باللسان بل هي عبارة عن شعوره بالندامة واعتزامه على إصلاح نفسه، ورجوعه إلى الخير، وكلّ ذلك مما لا يعلم حقيقة إلا الله، ولأجل هذا فإنه لا تغتفر بالتوبة ( العقوبة الدنيوية ) وإنما تغتفر بها ( العقوبة الأخروية ) فحسبُ... ومن ثمة فإن الله تعالى لم يقل : إلا الذين تابوا وأصلحوا فاتركوهم أو خلوا سبيلهم أو لا تعذبهم بل قال :﴿ إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ فإنه لو كانت العقوبات الدنيوية أيضاً تغتفر بالتوبة فمن ذا الذي ترونه من الجناة لا يتوب اتقاء لعقوبته.


الصفحة التالية
Icon