واختار أبو بكر ( الجصّاص ) الرأي الثاني فقال :« يعني والله أعلم من البيوت التي هم سكّانها، وهم عيال غيرهم فيها مثل : أهل الرجل، وولده، وخادمه، ومن يشتمل عليه منزله، فيأكل من بيته، ونسبها إليهم لأنهم سكانها، وإن كانوا في عيال غيرهم وهو صاحب المنزل، لأنه لا يجوز أن يكون المراد الإباجة للرجل أن يأكل من مال نفسه، إذ كان ظاهر الخطاب وابتداؤه في إباحة الأكل للإنسان من مال غيره. وقال الله :﴿ أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أمهاتكم ﴾ فأباح الأكل من بيوت هؤلاء الأقارب ذوي المحارم بجريان العادة ببذل الطعام لأمثالهم، وفقد التمانع في أمثاله ».
الحكم الثاني : هل للوكيل أن يأكل من مال موكّله؟
ظاهر قوله تعالى :﴿ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ ﴾ يدل على أنه يرخّص للوكيل أن يأكل من مال الموكل، بغير شطط ولا عدوان، وقد روي عن ( عكرمة ) أنه قال :« إذا ملك المفتاح فهو جائز، ولا بأس أن يَطْعم الشيء اليسير ».
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى :﴿ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ ﴾ هو وكيل الرجل يُرخَّص له أن يأكل من التمر، ويشرب من اللبن.
وقيل : المراد به وليّ اليتيم، يتناول من ماله بالمعروف دون إضرار باليتيم كما قال تعالى :﴿ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف ﴾ [ النساء : ٦ ].
الحكم الثالث : هل يباح الأكل من بيت الصّديق بغير إذنه؟
أباحة الآية الكريمة الأكل من بيوت من سمّى الله تعالىّ من الأقارب، ومن بيوت الأصدقاء. وقد كان الواحد لا يأكل من بيت غيره تأثماً، فرخّص الله تعالى لأهل الأعذار ( العمي، والعرج، والمرضى ) أولاً ثمّ رخّص للنَّاس عامة، فلو دخلت على صديق فأكلت من طعامه بغير إذنه كان ذلك حلالاً.
قال الجصاص :« وهذا أيضاً مبني على ما جرت العادة بالإذن فيه، فيكون المعتاد من ذلك كالمنطوق به، وهو مثل ما تتصدق به المرأة من بيت زوجها بالكسرة ونحوها، من غير استئذانها إيّاه، لأنه متعارف أنهم لا يمنعون مثله، كالعبد المأذون والمكاتب يدعوان إلى طعامهما، ويتصدقان باليسير ممّا في أيديهما، فيجوز بغير إذن المولى. وقد روي عن نافع عن ابن عمر أنه قال :» لقد رأيتني وما الرجل المسلم بأحقّ بديناره ودرهمه من أخيه المسلم «.
وروى إسحاق بن كثير عن الرصافي قال :»
كنا عند أبي جعفر يوماً فقال : هل يُدْخل أحدكم يده في كُمّ أخيه أو في كيسه فيأخذ ماله؟ قلنا : لا، قال : ما أنتم بإخوان «.
أقول : يباح للإنسان أن يأكل من بيت صديقه في غيبته لما بينهما من المودّة والصداقة، وقد جرت العادة بذلك، ودلت الآية عليه. والصديق يفرح بأكل صديقه عنده ويُسرّ غاية السرور. اللهم إلا إذا كان ممن قال فيهم الشاعر :


الصفحة التالية
Icon