سبب النزول
روى الحافظ ( ابن كثير ) في تفسيره عن ( سعد بن أبي وقاص ) رضي الله عنه أنه قال :( كنتُ رجلاً براً بأمي، فلما أسلمتُ، قالت يا سعد : ما هاذ الدين الذي أراك قد أحدثت! لتَدَعن دينك هذا، أو لا آكل، ولا أشرب، حتى أموت فتعيّر بي، فيقال : يا قاتل أمه، فقلتَ لها : يا أمّهْ لا تفعلي، فإني لا أدع ديني هذا لشيء أبداً ) !!
قال : فمكثتْ يوماً وليلة ولم تأكُلْ، فأصبحتْ وقد جَهِدت، فمكثت يوماً وليلة أخرى لا تأكل، فأصبحت قد اشتدّ جهدها.. فلما رأيتُ ذلك جئتُ إليها فقلت : يا أُمّهْ، تعلمينَ واللَّهِ، فإن شئتِ فكلي وإن شئت فدعي.. فلما رأت صلابته في دينه أكلت فأنزل الله تعالىّ ﴿ وَإِن جاهداك على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً واتبع سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ... ﴾ الآية.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : ذَكَرَ اللَّه سبحانه وتعالى في الوصية ( أمر الوالدين ) ثمّ نوّه بشأن الأم خاصة، فهو من باب ذكر ( الخاص بعد العام ) لزيادة العناية والاهتمام، ولبيان أن حق الأم على الولد أعظم من حق الأب، وقوله تعالى :﴿ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً على وَهْنٍ ﴾ هذه جملة اعتراضية.
قال الزمخشري : في « الكشاف » : فإن قلت : قوله تعالى :﴿ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً على وَهْنٍ ﴾ كيف اعترض به بين المفسَّر والمفسِّر؟ قلتُ : لمّا وصّى بالوالدين ذكر ما تكابده الأم وتعانيه من المشاقّ والمتاعب، في حملة وفصاله هذه المدة المتطاولة، إيجاباً للتوصية بالوالدة خصوصاً وتذكيراً بحقها العظيم مفرداً، ومن ثمّ قال بعد ذلك : أباك.
وروي عن بعض العرب أنه حمل أمه إلى الحج على ظهره، وهو يقول في حدائه :( أحمل أمي وهي الحمّالة، ترضعني الدرّة والعُلاَلة، ولا يُجَازَى والدٌ فِعَاله ).
اللطيفة الثانية : حين أمر سبحانه بشكر الوالدين قدّم شكره تعالى على شكرهما فقال ﴿ أَنِ اشكر لِي وَلِوَالِدَيْكَ ﴾ وفي هذا التقديم إشارة إلى أن حقّ الله أعظم من حق الوالدين، وشكره أوجب وألزم، لأنه تعالى هو المنعم الحقيقي، المتفضل على عباه بالنعم، وشكر الوالدين جزء من شكر المنعِم، والله جلّ وعلا هو السبب الحقيقي في الخلق والايجاد، والوالدان سبب ظاهري، فينبغي أن يُقدَّم السبب الحقيقي على السبب الظاهري.
اللطيفة الثالثة : تقديم ما حقّه التأخير يفيد الحصر فقوله تعالى :﴿ إِلَيَّ المصير ﴾ وقوله ﴿ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ ﴾ تقدّم الجار والمجرور على المتعلّق به فأفاد معنى الحصر والمعنى : إليّ المرجع والمآب لا إلى غيري، وإليّ مرجع الخلائق جميعاً لا إلى أحدٍ سواي.


الصفحة التالية
Icon