الحكم الخامس : هل يقع النسخ في الأخبار؟
جمهور العلماء على أن النسخ مختصّ بالأوامر والنواهي، والخبرُ لا يدخله النسخ لاستحالة الكذب على الله تعالى.
وقيل : إن الخبر إذا تضمن حكماً شرعياً جاز نسخه كقوله تعالى :﴿ وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً ﴾ [ النحل : ٦٧ ].
قال ابن جرير الطبري :« يعني جل ثناؤه بقوله :﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا ﴾ أي ما ننقل من حكم آية إلى غيره فنبدّله ونغيّره، وذلك أن يُحوّل الحلال حراماً، والحرام حلالاً، والمباح محظوراً، والمحظور مباحاً.. ولا يكون ذلك إلاّ في الأمر والنهي، والحضر والإطلاق، والمنع والإباحة، فأمّا الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ ».
وقال القرطبي : والنسخ كله إنما يكون في حياة النبي ﷺ وأما بعد موته واستقرار الشريعة فأجمعت الأمة أنه لا نسخ، ولهذا كان الإجماع لا ينسخ ولا يُنْسخ به إذ انعقاده بعد انقطاع الوحي، فتأمل هذا فإنه نفيس.
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
١ - نسخ الأحكام جائز بالإجماع كما دلّ على ذلك الكتاب والسنة.
٢ - راعت الشريعة الغرَّاء مصالح العباد، ولذا وقع النسخ في بعض الأحكام.
٣ - النسخ لا يكون في الأخبار والقصص، إنما يكون في الأحكام التي فيها حلال وحرام.
٤ - الأحكام مرجعها إلى الله تعالى، الذي يشرع لعباده ما فيه خيرهم وسعادتهم.
٥ - الله جل جلاله مالك الملك فيجب الاستسلام لحكمه وأمره مع الاطمئنان.
٦ - ليس من شأن المسلم أن يسأل نبيّه سؤال تعنت كما فعل اليهود مع أنبيائهم.
٧ - الانحراف عن طريق الاستقامة، وسلوك سبيل الضالين سبب الشقاوة.
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
جاءت الشريعة الإسلامية الغراء محققة لمصالح الناس، متمشية مع تطور الزمن، صالحة لكل زمان ومكان.. وكان من رحمة الله تبارك وتعالى بعباده أن سنّ لهم « سنة التدرج » في الأحكام، لتبقى النفوس على أتم الاستعداد لتقبّل تلك التكاليف الشرعية، فلا تشعر بملل أو ضجر، ولا تحسّ بمشقة أو شدة.. ولتظلّ الشريعة الغراء - كما أرادها الله - شريعة سمحة، سهلة لا عسر فيها ولا تعقيد، ولا شطط فيها ولا إرهاق.
ومن المعلوم : أن الأحكام ما شرعت إلا لمصلحة الناس، وهذه المصلحة تختلف باختلاف الزمان والمكان، فإذا شُرع حكمٌ في وقت من الأوقات كانت الحاجة ملحّة إليه، ثم زالت تلك الحاجة، فمن الحكمة نسخه وتبديله بحكم يوافق الوقت الآخر، فيكون هذا التبديل والتغيير أقرب للمصلحة، وأنفع للعباد.. وما مثل ذلك إلا كمثل الطبيب الذي يغيّر الأغذية والأدوية للمريض، باختلاف الأمزجة، والقابلية، والاستعداد.
والأنبياء صلوات الله عليهم هم ( أطباء القلوب ) ومصلحوا النفوس، لذلك جاءت شرائعهم مختلفة، تبعاً لاختلاف الأزمنة والأمكنة، وجاءت بسنة « التدرج » في الأحكام، لأنها بمثابة الأدوية والعقاقير للأبدان، فما يكون منها في وقت مصلحة، قد يكون في وقت آخر مفسدة، وما يصلح لأمة لا يصلح لأخرى، ذلك حكم العليم الحكيم.


الصفحة التالية
Icon