أما سبب تبنّيه عليه السلام لزيد قبل البعثة - مع كراهته الشديدة لعادات الجاهلية - فهو لحكمةٍ يريدها الله، ولقصةٍ من أروع القصص حدثت معه ﷺ.
وخلاصة القصة : أنّ زيداً كان مع أمه عند أخواله من بني طي، فأغارت عليهم قبيلة من قبائل العرب، فسلبتهم أموالهم وذراريهم - على عادة أهل الجاهلية في السلب والنهب - فكان زيد من ضمن من سُبي فقدموا به مكة فباعوه، فاشترته السيدة ( خديجة بنت خويلد ) فلما تزوجها رسول الله ﷺ أُعْجِبَ بنبوغه وذكائه، فوهبته له فبقي عند رسول الله عليه السلام يخدمه ويرعى شؤونه.
وكان أبوه ( حارثة بن شرحبيل ) بعد سبيه يبكي عليه الليل والنهار، وينشد فيه الأشعار، وقد ذكر العلامة القرطبي قصيدةً طويلة من شعر حارثة في الحنين لولده مطلعها :

بكيتُ على زيدٍ ولم أدرِ ما فعل أحيٌ يُرَجّى أم أتى دونه الأجلُ
تُذكّرُنِيْهِ الشمسُ عند طُلوعِها وتَعْرضُ ذِكْراه إذا غرْبُها أفل
وبلغ ( حارثةَ ) الخبرُ بأنّ ولده عند محمد ﷺ في مكة، فقدم مع عمه، حتى دخل على رسول الله، فقال يا محمد : إنكم أهل بيت الله، تفكّون العاني وتطعمون الأسير، ابني عندك فامنن علينا فيه، وأحسن إلينا في فدائه، فإنك ابن سيّد قومه، ولك ما أحببت من المال في فدائه!!
فقال رسول الله ﷺ : أعطيكم خيراً من ذلك، قالوا ما هو؟ قال : أخيّره أمامكم، فإن اختاركم فهو لكم بدون فداء، وإن اختارني فما أنا بالذي أرضى على من اختارني فداءً، فقالوا : أحسنتَ فجزاك الله خيراً.
فدعاه رسول الله ﷺ فقال يا زيد : أتعرف هؤلاء؟ قال : نعم، هذا أبي، وهذا عمي، فقال يا زيد : هذا أبوك، وهذا عمك، وأنا من عرفت، فاختر من شئت منا، فدمعت عينا زيد وقال : ما أنا بمختارٍ عليك أحداً أبداً، أنت مني منزلة الوالد والعم.
فقال له أبوه وعمه : ويحك يا زيد، أتختار العبودية على الحرية؟ فقال زيد : لقد رأيت من هذا الرجل من الإحسان، ما يجعلني لا استيطع فرقه وما أنا بمختار عليه أحداً أبداً.
فخرج رسول الله ﷺ إلى الناس وقال : اشهدوا أنّ زيداً ابني أرثه، ويرثني.. فطابت نفس أبيه وعمه لما رأوا من كرامة زيد عليه ﷺ. فلم يزل في الجاهلية يدعى ( زيد بن محمد ) حتى نزل القرآن الكريم. ﴿ ادعوهم لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله ﴾ فدُعي زيد بن حارثة. ونزل قوله تعالى :﴿ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ولكن رَّسُولَ الله وَخَاتَمَ النبيين... ﴾ [ الأحزاب : ٤٠ ] الآية.
وانتهى بذلك حكم التبني. وبطلت تلك البدعة المستحدثة بتشريع الإسلام الخالد.


الصفحة التالية
Icon