﴿ أَطْهَرُ ﴾ : أي أسلم وأنقى، أفعل تفضيل من الطهارة بمعنى النزاهة والنقاء، والمعنى : سؤالكم للنساء من وراء حجاب أكثر نقاءً وتنزيهاً لقلوبكم وقلوبهن من الهواجس والخواطر التي تتولد فيها عند اختلاط الرجال بالنساء، وأبعد عن الريبة وسوء الظنّ.
المعنى الإجمالي
أمر الله سبحانه عباده المؤمنين أن يتأدبوا بالآداب الإسلامية الكريمة، ويتمسكوا بما شرعه لهم من التوجيهات والإرشادات الحكيمة، التي بها صلاح دينهم ودنياهم وخاصة مع النبي ﷺ، فمقام النبوّة لا يعادله مقام، وإيذاء النبي ﷺ - سواء كان بالقول أو الفعل - منأعظم الكبائر عند الله، وقد ألزمنا الله سبحانه بتلك الآداب الفاضلة، وأمرنا بالتمسك بها، حتى يتحقق المجتمع الفاضل الذي ينشده الإسلام، وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة أمرين هامين :
الأول : الأدب في أمر الطعام والاستئذان ودخول البيوت ( أدب الوليمة ).
الثاني : الأدب في مخاطبة النساء، وعدم الاختلاط بهن أو الخلوة أدب ( الحجاب الشرعي ).
يقول الله جل ثناؤه ما معناه : اي أيها المؤمنون لا تدخلوا بيوت النبي إلا بعد الإذن، ولا تترقبوا أوقات الطعام فتدخلوا عليه فيها، أو تنتظروا أن يحين وقت نضج الطعام فتستأذنوا عليه في الدخول، إلا إذا كنتم مدعوَّين إلى وليمة قد أعدّها لكم رسول الله ﷺ، ومع ذلك إذا دعيتم وطعمتم فاخرجوا وتفرقوا ولا تثقلوا على الرسول الكريم بالجلوس بعد الطعام، فإن حياءه يمنعه أنيأمركم بالانصراف، أو يظهر لكم الامتعاض من جلوسكم في بيته، فهو ذو الخلق الرفيع، والقلب الرحيم، لا يصدر منه إلا ما يسرّكم، فلا يليق بكم أن تثقلوا عليه، أو تؤذوه في نفسه أو أهله، وإذا أردتم حاجةً من أزواجه الطاهرات، فاسألوهن من وراء حاجز وحجاب، لأن ذلك أزكى لقلوبكم وقلوبهن، وأنفى للريبة، وأبعد عن التهمة، وأطهر لبيت النبوة.
ولا يليق بكم أيها المؤمنون أن تؤذوا رسولكم، الذي هداكم الله به وأخرجكم من الظلمات إلى النور، فهو كالوالد لكم، وأزواجه كالأمهات لكم، وهل يصح لمؤمن أن يتزوج أمه؟ فلا تؤذوه في حياته ولا بعد مماته، ولا تتزوجوا بأزواجه من بعده أبداً، فإن إيذاء الرسول، ونكاح أزواجه من بعد وفاته، ذنب عظيم عند الله لا يغفره الله لكم أبداً، وهو عند الله بالغ الذنب والعقوبة.
سبب النزول
تعرضت الآية الكريمة لأمرين هامين هما « آداب الدعوة » و « مشروعية الحجاب » ولكل منهما سبب نزول.
أما الأول : فقد روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال : تزوج رسول الله ﷺ فدخل بأهله فصنعت ( أم سليم ) أمي حَيْساً فجعلته في تَوْر وقالت يا أنس إذهب إلى رسول الله ﷺ فقل بعثت به إليك أمي، وهي تقرئك السلام وتقول لك : إن هاذ منا قليل يا رسول الله!!
قال : فذهبت به إلى رسول الله ﷺ وقلت له : إن أمي تقرئك السلام وتقول لك : إن هذا لك منا قليل يا رسول الله، فقال : ضعه ثم قال : إذهب فادع لي فلاناً وفلاناً، ومن لقيتَ وسمَّى رجالاً، فدعوت من سَمَّى ومن لقيتُ، قيل لأنس : عدد كَمْ كانوا؟ قال : زهاء ثلاثمائة، قال أنس : فقال لي رسول الله ﷺ يا أنس هات التور، قال فدخلوا حتى امتلأت الصُفَّة والحجرة فقال رسول الله ﷺ : ليتحلق عشرة عشرة وليأكل كل إنسان مما يليه، فأكلوا حتى شبعوا، قال : فخرجت طائفة، ودخلت طائفة حتى أكلوا كلهم، فقال لي يا أنس : ارفع، فما أدري حين وضعتكان أكثر أم حين رفعت؟ وجلس منهم طوائف يتحدثون في بيت رسول الله ﷺ وهو جالس وزوجُه موليَّة وجهها إلى الحائط فثقلوا على رسول الله ﷺ فخرج فسلم على نسائه ثم رجع فلما، رأوا رسول الله ﷺ قد رجع ظنوا أنهم قد ثقلوا عليه فابتَدرُوا الباب وخرجوا كلهم، وجاء رسول الله ﷺ حتى أرخى الستر ودخل وأنا جالس في الحُجْرة فلم يلبث إلا يسيراً حتى خرج عليّ وأنزل الله هذه الآية :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي ﴾ فخرج رسول الله ﷺ فقرأها على الناس.


الصفحة التالية
Icon