اللطيفة الثانية : قوله تعالى :﴿ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ ﴾ في الكلام باء محذوفة تسمّى ( باء المصاحبة ) أي إلاّ بأن يؤذن لكم. وتضمين ( الإذن ) معنى ( الدعوة ) للإشعار بأنه لا ينبغي أن يدخلوا على الطعام بغير دعوة وإن وجد صريح الإذن بالدخول، حتى لا يكون الإنسان ( طفيلياً ) يحضر الوليمة بدون سابق دعوة.
وممّا يدل على هذا التضمين قوله تعالى بعدها :﴿ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فادخلوا ﴾ فإنها صريحة في أن المرا د بالإذن ( الدعوة ) فتنبه لهذا السّر فإنه دقيق.
اللطيفة الثالثة : قوله تعالى :﴿ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فادخلوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فانتشروا ﴾ قال الإمام الرازي :« فيه لطيفة وهي أن في العادة إذا قيل لمن كان يعتاد دخول دار من غير أذن : لا تدخلها إلاّ بإذن، يتأذى وينقطع بحيث لا يدخلها أصلاً ولا بالدعاء، فقال : لا تفعلوا مثل ما يفعله المستنكفون، بل كونوا طائعين سامعين، إذا قيل لكم : لا تدخلوا فلا تدخلوا، وإذا قيل لكم ادخلوا فادخلوا ». وهذا معنى لطيف.
اللطيفة الرابعة : قوله تعالى :﴿ وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ ﴾ فيه إشارة لطيفة أن المكث بعد الطعام غير مرغوب فيه على الإطلاق، فالأمر أمر وليمة وقد انتهت، ولم يبق إلاّ أن يفرغ أهل البيت لبعض شأنهم، والبقاء بعد ذلك فيه نوع من الأثقال غير محمود.
قال بعض العلماء : هذه الآية نزلت في الثقلاء، وقرأها بعضهم فقال :« هذا أدب من الله تعالى أدَّب به الثقلاء » ويروى عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهما :« حسبُك في الثقلاء أنّ الشرع لم يحتملهم ».
وأنشد بعض الفضلاء :

وثقيلٍ أشدّ من ثِقَل المو ت ومن شدّة العذابِ الأليم
لو عصت ربَّها الجحيمُ لما كا ن سواهُ عقوبةً للجحيم
وقال آخر :
ربّما يثقُل الجليس ولو كا ن خفيفاً في كِفّة الميزان
ولقد قلتُ حين وتّد في البي تِ ثقيل أربى على سهلان
كيف لم تحمل الأمانة أرضٌ حملت فوقها أبا سفيان؟!
اللطيفة الخامسة : قوله تعالى :﴿ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ والله لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الحق ﴾ الاستحياء لا يكون من الذات، وإنما يكون من الأفعال، بدليل قوله تعالى :﴿ والله لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الحق ﴾ ولم يقل : والله لا يستحيي منكم والكلام فيه حذف تقديره : فيستحيي من إخراجكم أو من أمركم بالانصراف والله لا يستحيي من بيان الحق، وأطلق استحياء الله وأراد منه عدم السكوت عن بيانه، فسمّي السكوت عليه استحياءً على ( طريق المشاكلة ) لوقوعه بجانب استحياء الرسول على حد قول القائل :
قالوا اقترحْ شيئاً نُجد لك طبخه قلتُ اطبخوا لي جُبّة وقميصاً
اللطيفة السادسة : قوله تعالى :﴿ ذلكم أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ﴾ فيه إشارة دقيقة إلى ما بين العين والقلب من صلة وثيقة، فالعين طريق الهوى والنظرة بريد الشهوة، فإذا لم تر العين لا يشتهي القلب، وكما قال بعض الأدباء :


الصفحة التالية
Icon