ثالثاً : قوله تعالى :﴿ رَحْمَةً مِّنَّا وذكرى ﴾ رحمة مفعول لأجله، ومثلها ﴿ وذكرى ﴾ أي لرحمتنا إيّاه وليتذكّر أرباب العقول بما يحصل للصابر من الفضل والأجر.
رابعاً : قوله تعالى :﴿ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً ﴾ عطف على ﴿ اركض ﴾ أو على ﴿ وَهَبْنَا ﴾ بتقدير قلنا خذ بيدك ضغثاً.
قال الألوسي :« والأول أقرب لفظاً، وهو أنسب معنى، فإنَّ الحاجة إلى هذا الأمر لا تكون إلا بعد الصحة واعتدال الوقت ».
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : في قصة أيوب عليه السلام كان قد حصل له نوعان من البلاء :( المشقة الشديدة ) بسبب زوال النعم والخيرات، وحصول المكروه و ( الألم الشديد ) في الجسم، ولما كان كل منهما قد لحق به وأصابه الضرُّ بسببه، أحدهما مادي، والآخر جسدي، ذكر الله تعالى في الآية الكريمة لفظين ( النُّصْب ) و ( العذاب ) ليقابل بذلك الضر الذي أصابه، فالنُّصْب الضرُّ في الجسد، والعذاب البلاء في الأهل والمال.
اللطيفة الثانية : وصف الله تعالى نبيّه ( أيوب ) عليه السلام بالصبر، وأثنى عليه بقوله :﴿ إِنَّا وجدناه صَابِراً ﴾ مع أن أيوّب كان قد اشتكى إلى ربه من الضر الذي أصابه فقال :﴿ مَسَّنِيَ الضر ﴾ في سورة الأنبياء [ ٨٣ ]، وقال هنا :﴿ مَسَّنِيَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ﴾ فدلّ ذلك على أنّ الشكوى إلى الله تعالى لا تنافي الصبر، وقد قال يعقوب عليه السلام :﴿ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله ﴾ [ يوسف : ٨٦ ] ولهذا مدحه الله بقوله :﴿ نِّعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ ولو كانت الشكوى إلى الله تعالى تنافي الصبر لما استحق هذا الثناء.
اللطيفة الثالثة : قوله تعالى :﴿ أَنِّي مَسَّنِيَ الشيطان ﴾ أسند الضُرَّ الذي أصابه في جسمه وأهله، وماله، إلى الشيطان أدباً مع الله تعالى، مع أن الفاعل الحقيقي هو الله رب العالمين، فالخيرُ والشرُ، والنفع والضُّر، بيد الله جلَّ وعلا. ولكن لا ينسب الشر إلى الله وإنما ينسب إلى النفس أو الشيطان، ولهذا راعى عليه السلام الأدب في ذلك فنسبه إلى الشيطان، وهو على حدّ قول إبراهيم عليه السلام :﴿ والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴾ [ الشعراء : ٧٩ - ٨٠ ] حيث نسب الإطعام إلى الله ونسب المرضَ إلى نفسه أدباً.
قال الزمخشري :« لمّا كانت وسوسته إليه، وطاعته له فيما وسوس، سبباً فيما مسّه الله به من النّصب والعذاب نسبه إليه، وقد راعى الأدب في ذلك حيث لم ينسبه إلى الله في دعائه، مع أنه فاعله ولا يقدر عليه إلا هو ».
اللطيفة الرابعة : سئل سفيان عن عبدين، ابتلى أحدهما فصبر، وأُنْعم على الآخر فشكر، فقال : كلاهما سواء، لأن الله تعالى أثنى على عبدين : أحدهما صابر، والآخر شاكر ثناءً واحداً فقال في وصف أيوب ﴿ نِّعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ وقال وفي وصف سليمان ﴿ نِعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ ص : ٣٠ ].
وفضّل بعض العلماء : الغنيّ الشاكر، على الفقير الصابر، لأن الغنَى ابتلاء وفتنة، والشاكرُ من عباد الله قليل


الصفحة التالية
Icon