ثانياً : قوله تعالى :﴿ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً ﴾ مناً وفداء منصوبان على المصدر إمّا أن تمنوا عليهم مناً، أو تفادوهم فداءً، فهو كسابقه مفعول مطلق لفعل محذوف. وحذف الفعل الناصب للمصدر واجب كذلك ومنه قول الشاعر :

لأجهدَنّ فإمّا درءَ واقعةٍ تُخشى وإمّا بلوغَ السُّؤل والأمل
وجوّز أبو البقاء كون كل من ( منّاً ) و ( فداءً ) مفعولاً به لمحذوف تقديره : تولوهم مناً، أو تقبلوا منهم فداءً، ولكنّ أبا حيان ردّ هذا بأنه ليس إعرابَ نحويّ.
ثالثاً : قوله تعالى :﴿ ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ ﴾ ذلك، في موضع رفع لأنه خبر لمبتدأ محذوف وتقديره : الأمر ذلك أو الحكم ذلك.
رابعاً : قوله تعالى :﴿ وَيُدْخِلُهُمُ الجنة عَرَّفَهَا لَهُمْ ﴾ جملة ﴿ عَرَّفَهَا لَهُمْ ﴾ في موضع نصب على الحال، والتقدير ويدخلهم الجنة معرّفة لهم.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : عبّر القرآن الكريم عن القتل بقوله تعالى :﴿ فَضَرْبَ الرقاب ﴾ والسرّ في ذلك أنّ في هذه العبارة من الغلظة والشدّة ما ليس في لفظ ( القتل ) لما فيه من تصوير القتل بأشنع صورة، وهو حزّ العنق وإطارة العضو الذي هو رأس البدن، وأشرب أعضائه، ومجمع حواسه، وبقاء البدن ملقى على هيئة منكرة والعياذ بالله تعالى، ولو قال :( فاقتلوهم ) لَمَا كان هذا المعنى الدقيق.
والتعبير أيضاً : يوحي بشجاعة المؤمنين وأنهم من الكفار كأنهم متمكنون من رقابهم، يعملون فيهم سيوفهم بضرب الأعناق، وهو ( مجاز مرسل ) علاقته السببيّة لأن ضرب الرقبة سبب الموت.
اللطيفة الثانية : قوله تعالى :﴿ فَشُدُّواْ الوثاق ﴾ كناية عن الأسر أي اجعلوهم أسرى واحفظوهم رهائن تحت أيديكم، حتى تروا فيهم رأيكم، ولما كانت العادة أن يربط الأسير لئلا يهرب جاء التعبير بقوله :﴿ فَشُدُّواْ الوثاق ﴾ وفيه الإشارة إلى الكفّ عن القتل والاكتفاء بالأسر، لأنّ الشريعة الغراء تنهى عن الإجهاز على الجريح، وذلك من آداب الإسلام وتعاليمه الإنسانية الرشيدة.
اللطيفة الثالثة : تقوله تعالى :﴿ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً ﴾ ذكر تعالى ( المن والفداء ) ولم يذكر القتل والاسترقاق، وفي ذلك إرشاد من الله تعالى إلى أن الغرض من الحرب كسر ( شوكة المشركين )، لا إراقة الدماء والتشفي بإزهاق الأرواح، فإذا ضعفت شوكة المشركين ووهَنت قواهم فلا حاجة إلى القتل. وتقديم ( المن ) على ( الفداء ) في الآية الكريمة للإشارة إلى ترجيح حرمة النفس على طلب المال، فالمجاهد في سبيل الله يقاتل لإعلاء كلمة الله، لا للمغنم المادي والكسب الدنيوي.
اللطيفة الرابعة : قوله تعالى :﴿ حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا ﴾ في الآية الكريمة إشارة إلى أن الإسلام يكره الحرب ويمقتها، لأنها مخرّبة مدمّرة، والتعبير ب ﴿ أَوْزَارَهَا ﴾ للإشارة إلى أنّ ما فيها من آثام إنما ترجع على الذين أشعلوها وهم الكفار، المحاربون لله ورسوله، فلولا كفرُهم وإفسادُهم في الأرض لما كانت هناك حرب.


الصفحة التالية
Icon