قال الإمام الفخر :« والمقصود من وضع الحرب أوزارها، انقارض الحرب بالكلية بحيث لا يبقى في الدنيا حزب من أحزاب الكفر، يحارب حزباً من أحزاب الإسلام، وإنما قال :﴿ حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا ﴾ ولم يقل : حتى لا يبقى حرب، لأن التفاوت بين العبارتين كالتفاوت بين قولك : انقرضت دولة بني أمية، وقولك لم يبق من دولتهم أثر، ولا شك أن الثاني أبلغ، فكذا هاهنا ».
اللطيفة الخامسة : فإن قيل : لماذا لم يهلك الله الكافرين مع قدرته عليهم وأمرَ المؤمنين بالجهاد؟
فالجواب : أن الله تعالىّ أراد بذلك أن يختبرعباده، فابتلى المؤمنين بالكافرين، ليختبر صبرهم على المكاره، واحتمالهم للشدائد، وابتلى الكافرين بالمؤمنين، ليطهّر الأرض من رجسهم، وينيل المؤمنين الشهادة في سبيله بسببهم، وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة :﴿ ولكن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ﴾.
فإن قيل : إن الله يعلم المؤمن من الكافر، والبّرّ من الفاجر، والمطيع من العاصي، فما هي فائدة هذا الابتلاء؟ فالجواب أن الابتلاء من الله تعالى ليس بقصد العلم والمعرفة، وإنما هو بقصد إثابة المؤمن، وتعذيب الكافر، بعد إقامة الحجة عليه، حتى يقطع العذر على الإنسان، أو نقول : إن الابتلاء غرضه الكشف للناس، أو للملائكة، ليظهر لهم الصادق من المنافق، والتقي من الشقي، وليس بالنسبة له تعالى، لأنه بكل شيء عليم.
اللطيفة السادسة : أمر الله تعالى بالمنّ أو الفداء، وهذا من مكارم الأخلاق التي أرشد إليها الإسلام، روي أن الحجّاج حين أسر أصحاب ( عبد الرحمن بن الأشعث ) وكانوا قريباً من خمسة آلاف رجل، قتل منهم ثلاثة آلاف فجاءه رجل من ( كِنْدة ) فقال يا حجّاج : لا جزاك الله عن السُنَّة والكرم خيراً! قال : لأن الله تعالى يقول :﴿ فَإِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرقاب حتى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الوثاق فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً ﴾ في حق الذين كفروا... فوالله ما مننتَ، ولا فديت؟ وقد قال شاعركم فيما وصف به قومه من مكارم الأخلاق :

ولا نقتل الأسرى ولكن نفكّهم إذا أثقلَ الأعناق حملُ المغارم
فقال الحجاج : أفٍّ لهذه الجيف!! أما كان فيهم من يحسن مثل هذا الكلام!؟ خلّوا سبيل من بقي، فخُلّي يومئذٍ عن بقية الأسرى وهم زهاء ألفين، بقول ذلك الرجل.
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : ما المراد ب ﴿ الذين كَفَرُواْ ﴾ في الآية الكريمة؟
اختلف المفسرون في المراد من قوله تعالى :﴿ الذين كَفَرُواْ ﴾ على قولين :
١- القول الأول : أن المراد بهم المشركون الكفار عبدة الأوثان. وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما.
٢- القول الثاني : أن المراد بهم كل من خالف دين الإسلام من مشركٍ، أو كتابي إذا لم يكن صاحب عهد ولا ذمة، فيدخل فيه كلّ الكفار بدون استثناء وهو ظاهر الآية، واختيار جمهور المفسرين.


الصفحة التالية
Icon