ثم لقيني رسول الله ﷺ من الغد في السوق، فقال يا سلمة : هب لي المرأة لله أبوك!! فقلت : هي لك يا رسول الله، فوالله ما كشفتُ لها ثوباً.. فبعث بها رسول الله ﷺ ففدى بها ناساً من المسلمين أُسرُوا بمكة «.
ز- واستدلوا بالمعقول وهو : أن تخليص المسلم أولى من قتل الكافر، للانتفاع بالمسلم، لأنّ حرمته عظيمة، وأما الضرر الذي يعود إلينا بدفعه إلى المشركين، فيدفعه نفع المسلم الذي يتخلّص من فتنتهم وعذابهم، وضررُ واحد يقوم بدفعه واحد مثله فيتكافئان، وتبقى فضيلة تخليص المسلم وتمكينه من عبادة الله تعالى، وفيها زيادة ترجيح.
هذه خلاصة أدلة الجمهور بالنسبة ( للفداء ) سواءً كان بالمال أو بالرجال على ما عرفت.
وأمّا ( المنّ ) على الأسارى وهو أن يطلقهم إلى دار الحرب من غير شيء فلا يجوز ( عند أبي حنيفة، ومالك، وأحمد ) وأجازه الإمام الشافعي لما ثبت أن النبي ﷺ منّ على ( ثُمامة بن أُثال ) سيّد أهل اليمامة ثم أسلم وحسن إسلامه، وقال ﷺ :»
لو كان المطعم بن عدي حيّاً ثمّ كلمني في هؤلاء النتنى - يعني أسارى بدر - لتركتهم له «. فقوله ﷺ ذلك دليل على جواز المنّ على الأسرى.
الترجيح :
وبعد استعراض هذه الأدلة من الفريقين نرى أنَّ الأرجح أن يفوّض أمر الحرب لأهل الاختصاص من ذوي الرأي والبصر، يفعلون ما تقتضي به المصلحة العامة، فإن رأوا قتل الأسرى قتلوهم، وإن رأوا أخذ الفداء بالمال أو بالأسرى، فادْوهم، وإن رأوا إبقاءهم في الأسر تركوهم تحت أيدي المسلمين، فيترك لهم تقدير المصلحة حسب الظروف التي هم فيها، وهذه من ( السياسة الحكيمة ) التي ينبغي أن تتوفر في قادة المسلمين.
والرسول ﷺ قد فعل ذلك كلّه، فأسر من أسر، وقتل من قتل، وفادى منهم، وأطلق سراح من أطلق دون مالٍ ولا فداء. وما نزل من آيات العتاب في سورة الأنفال فإنما كان بتوجيهٍ إلهي حكيم - حسب المصلحة أيضاً - حيث نزلت هذه الآيات الكريمة في ( غزوة بدر ) وهي أول حرب يخوضها المسلمون مع أعدائهم، فكانت المصلحة تقضي بترجيح جانب الشدّة على جانب الرحمة، بالقتل، والإثخان، وإراقة الدماء، حتى لا يطمع المشركون بالإقدام على حرب المسلمين مرة أخرى، وحتى تُقَلَّم أظافر الكفر منذ اللحظة الأولى، فإذا علم المشركون أن لا رحمة في قلوب المسلمين عليهم، هابوهم وتخوّفوا من الإقدام على حربهم، وهذا ما كان قد أشار به الفاروق عمر رضي الله عنه على رسول الله ﷺ ونزل القرآن موافقاً لرأية.


الصفحة التالية
Icon