ولمّا كثر عدد المسلمين، وقويت شوكتهم، وأصبحت الدولة بأيديهم نزل القرآن الكريم بالمنّ والفداء على الأسرى، بعد أن توطّدت دعائم الدولة الإسلامية، وأصبح صرح الإسلام شامخاً عتيداً، فكان المنّ عن قوّة، لا عن ضعف، وعن عزة، لا عن ذلة واستكانة.
فالمصلحة العامة هي التي ينبغي أن تراعى في مثل هذه الحالات، والحربُ مكر وخديعة، ولا عزة للضعفاء المستكينين.
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
أولاً : المؤمن يقاتل في سبيل الله، لإعلاء كلمة الله، فينبغي أن يكون شجاعاً مقداماً.
ثانياً : إثخان العدو بكثرة القتل فيهم والجروح، من أجل إضعاف شوكتهم وتوهين قوتهم.
ثالثاً : الحرب في الإسلام حرب مقدسة، غرضها تطهير الأرض من رجس الكفرة المشركين.
رابعاً : الاكتفاء بالأسر بعد إثخان العدو مظهر من مظاهر رحمة الإسلام بأعدائه.
خامساً : إطلاق سراح الأسرى بدون عوض، أو أخذ الغداء منهم يبنغي أن تراعى فيه مصلحة المسلمين.
سادساً : الجهاد في سبيل الله ماضٍ في هذه الأمة حتى لا يبقى على وجه الأرض مشرك.
سابعاً : الله جل ثناؤه قادر على أن ينتقم من المشركين ولكنه أراد أن يُنيل المؤمنين أجر الاستشهاد في سبيله.
ثامناً : الحياة ابتلاء للمؤمن والكافر، يبتلي بعضهم ببعض ليعذب الكافر ويثيب المؤمن.
حكمة التشريع
أقر الإسلام الحرب - مع علمه بما تجره على البلاد من ويلات ونكبات - لضرورة وقائية، وعلاج اضطراري، لا مناص منه لمجابهة الطغيان، ودفع الظلم والعدوان، وتطهير الأرض من رجس المشركين الغادرين، على حد قول القائل :

إذا لم تكن إلاّ الأسنّة مركباً فلا بدّ للمضطر إلاّ ركوبُها
ولكنّ الإسلام في الوقت الذي يدعو فيه إلى الجهاد، ويحض على القتال، ويبيح الحرب كضرورة من الضرورات، تجده يأمر بالرحمة والشفقة في ( معاملة الأسرى ) الواقعين في أسر العبودية، فيحرّم تعذيبهم أو إيذاءهم كما يحرم التمثيل بالقتلى، أو الإجهاز على الجرحى، أو تقتيل النساء والصبيان.
إن الغرض من الجهاد ليس إراقة الدماء، وسلب الأموال، وتخريب الديار، ولكنه غرض إنساني نبيل، هو حماية المستضعفين في الأرض، ودفع عدوان الظالمين، وتأمين الدعوة، والوقوف في وجه الاستعلاء والطغيان كما قال جل ثناؤه ﴿ وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [ الحج : ٤٠ ].
ولقد كان من وصايا النبي الأكرم ﷺ، للجند والجيش المجاهدين في سبيل الله، أن يأمرهم بطاعة الله، وعدم الغدر والخيانة حتى بالأعداء. فقد روى مسلم في صحيحة أن رسول الله ﷺ كان إذا أمّر أميراً على جيش أو سرية، أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال :


الصفحة التالية
Icon