اللطيفة الثانية : تصدير الخطاب بالنداء ﴿ ياأيها الذين آمنوا ﴾ لتنبيه المخاطبين على أنّما بعده أمر خطير، يستدعي مزيد العناية والاهتمام بشأنه، ووصفهم بالإيمان لتنشيطهم والإيذان بأنه داع للمحافظة عليه، ووازع عن الإخلال به. أفاده العلامة أبو السعود.
اللطيفة الثالثة : قوله تعالى ﴿ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ ﴾ في هذا التعبير إشارة لطيفة إلى أن المؤمن ينبغي أن يكون حذراً يقظاً، لا يقبل كلّ كلام يلقى على عواهنه، دون أن يعرف المصدر، وتنكير ( فاسق ) للتعميم، لأنه نكرة في سياق الشرط، وهي كالنكرة في سياق النفي تفيد العموم كما قرّره علماء الأصول، والمعنى إن جاءكم أيّ فاسق فتثبتوا من خبره، وجاء بحرف التشكيك ( إن ) ولم يقل ( إذا ) التي تفيد التحقيق، ليشير إلى أنّ وقوع مثل هذا إنما هو على سبيل ( النّدرة ) إذْ الأصل في المؤمن أن يكون صادقاً ولمَّا كان رسول الله ﷺ وأصحابه بالمنزلة التي لا يجسر أحد أن يخبرهم بكذب، وما كان يقع مثل ما فرط من ( الوليد بن عقبة ) إلاّ في النّدرة قيل :﴿ إِن جَآءَكُمْ ﴾ بحرف الشك. فتدبر أسرار الكتاب العزيز.
اللطيفة الرابعة : قوله تعالى :﴿ واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله ﴾ تقديم خبر أنّ على اسمها ليفيد معنى الحصر، المستتبع لزيادة التوبيخ لهم على ما فرط منهم في حقّ الرسول ﷺ، وفي الكلام إشعار بأنّهم زيّنوا بين يدي الرسول ﷺ الايقاع بالحارث وقومه، وقد أريد أن ينعى عليهم ذلك بتنزيلهم منزلة من لا يعلم أنه عليه السلام بين أظهرهم.
قال الإمام الفخر رحمه الله :« والذي اختاره وكأنه هو الأقوى أن الله تعالى لما قال :﴿ ياأيها الذين آمنوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا ﴾ أي فتثبّتوا واكشفوا قال بعده :﴿ واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله ﴾.
أي الكشفُ سهل عليكم بالرجوع إلى النبي ﷺ، فإنه فيكم مبيّن مرشد، وهذا كما قال القائل عند اختلاف تلاميذ شيخٍ في مسألة، هذا الشيخ قاعد.. لا يريد به بيان قعوده، وإنما يريد أمرهم بالرجوع إليه. فكأن الله تعالى يقول : استرشدوا بالرسول ﷺ فإن يعلم ولا يطيع أحداً، فلا يوجد فيه حيف، ولا يروج عليه زيف، لأنه لا يعتمد على كثير من آرائكم التي تبدونها، وإنما يعتمد على الوحي الذي يأتيه من عند الله.
اللطيفة الخامسة : صيغة المضارع تفيد ( الاستمرار والتجدّد ) بخلاف الماضي، فالعدول عن الماضي إلى المضارع في قوله تعالى :﴿ لَوْ يُطِيعُكُمْ ﴾ ليفيد هذا المعنى على أنهم كانوا يريدون إطاعة الرسول لهم إطاعة مستمرة بدليل قوله تعالى :﴿ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمر ﴾ وذلك أن صيغة المضارع تفيد التجدد والاستمرار، تقول : فلانَ يقري الضيف، ويحمي الحريم، تريد أن ذلك شأنه وأنه مستمر على ذلك.