قال العلامة الألوسي :« وفي هذا التعبير ﴿ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمر لَعَنِتُّمْ ﴾ مبالغات من أوجه :
أحدها : إيثار ( لو ) ليدلّ على الفرض والتقدير.
والثاني : ما في العدول إلى المضارع من إرادة استمرار ما حقه أن يفرض للتهجين والتوبيخ.
والثالث : ما في لفظ ( العنت ) من الدلالة على أشدّ المحذورة، فإنه الكسر بعد الجبر.
والرابع : ما في الخطاب، والجدير به غير ( الكُمّل ) ليكون أردع لمرتكبه وأزجر.
وكأنّ الله تعالى يقول : يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا ولا تكونوا أمثال هؤلاء الذين استفزهم النبأ قبل التعرف على صدقه، ثم لم يكتفوا حتى أرادوا أن يحملوا الرسول على رأيهم، ليوقعوا أنفسهم ويوقعوا غيرهم في العنت والإرهاق، واعلموا جلالة قدر الرسول ﷺ وتفادّوْا عن أمثال هذه الأخطاء.
اللطيفة السادسة : قوله تعالى :﴿ أولئك هُمُ الراشدون ﴾ التفات من الخطاب إلى الغيبة كقوله تعالى :﴿ وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله فأولئك هُمُ المضعفون ﴾ [ الروم : ٣٩ ] وهذا الالتفات من المحسّنات البديعية كما قرّره علماء البلاغة، كما قرّره علماء البلاغة، ويقصد به التعظيم أي هؤلاء الذين حبّب الله إليهم الإيمان، وزيّنه في قلوبهم وكرّه إليهم الكفر والفسوق العصيان، هم الذين بلغوا أرفع الدرجات وأعلى المناصب، ونالوا هذه الرتبة العظيمة ( رتبة الرشاد ) فضلاً من الله وكرماً.
اللطيفة السابعة : قوله تعالى ﴿ وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا ﴾ الطائفة في اللفظ مفرد، وفي المعنى جمع، لأنها تدل على عدد كبير من الناس، ولهذا جاء التعبير بقوله ( اقتتلوا ) رعايةً للمعنى فإن كلّ طائفةٍ من الطائفتين جماعة، ثم قال تعالى :﴿ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا ﴾ ولم يقل بينهم رعايةَ للفظ، والنكتة في هذا هو ما قيل : إنهم عند الاقتتال تكون الفتنة قائمة وهم مختلطون فلذا جمع الضمير، وفي حال الصلح تتفّق كلمة كل طائفة حتى يكونوا كنفسين فلذا ثُنّي الضمير.
اللطيفة الثامنة : قال الإمام الفخر رحمه الله : قال تعالى :﴿ وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين ﴾ ولم يقل ( منكم ) مع أنّ الخطاب مع المؤمنين لسبق قوله :﴿ ياأيها الذين آمنوا ﴾ تنبيهاً على قبح ذلك، وتبعيداً لهم عنهم. كما يقول السيد لعبده : إن رأيت أحداً من غلماني يفعل كذا فامنعه، فيصير بذلك مانعاً للمخاطَب عن ذلك الفعل بالطريق الحسن، كأنه يقول : أنت حاشاك أن تفعل ذلك، فإن فعل غيرك فامنعه، كذلك هاهنا قال :﴿ وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين ﴾ ولم يقل منكم لما ذكرنا من التنبيه مع أن المعنى واحد.
اللطيفة التاسعة : قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ ﴾ فيه تشبيه لطيف يسمى ( التشبيه البليغ ) وأصل الكلام : المؤمنون كالإخوة في وجوب التراحم والتناصر فحذف وجه الشبه وأداة الشبة فأصبح بليغاً، قال بعض أهل اللغة : الإخوة جمع الأخ من النسب، والإخوان جمع الأخ من الصداقة، فالله تعالى قال :﴿ إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ ﴾ تأكيداً للأمر وإشارة إلى أنّ ما بينهم كما بين الإخوة من النسب، والإسلام لهم كالأب فأخوّة ( العقيدة ) فوق أخوة ( الجسد ) ورابطة الإيمان أقوى من رابطة النسب، وقد قال الشاعر العربي :


الصفحة التالية
Icon