﴿ هَجْراً جَمِيلاً ﴾ : أي لا تتعرض لهم، وجانبهم ولا تقابلهم بمثل إساءتهم.
المعنى الإجمالي
يقول الله تعالى ما معناه مخاطباً نبيّه الكريم : يا أيها المتزمّل المتلفّف في ثيابه، قم للأمر العظيم الذي ينتظرك، قم للجهد والنصب، والكدّ والتعب، فقد مضى وقت الراحة، قم فشمّر عن ساعد الجد، وأحي الليل كلّه أو نصفه أو أقل قليلاً، بالصلاة والتضرع، والعبادة والتخشع، لتستعد لنفحاتنا القدسيّة، لأننا سنوحي إليك بهذا القرآن العظيم، الثقيل في الوزن العظيم في الأجر، الرصين في الجزالة والتعبير، فاقرأه بتدبر وتبصر في قيامك بالليل، ورتّله على مهل بخشوع وإنابة فإن قيام الليل بالصلاة، وقضاء ساعاته في الطاعة، أشدّ ثقلاً على النفس، وأرجى للقبول عند الله.
ولك يا محمد في النهار تقلباً طويلاً من مهامّك، فاجعل ناشئة الليل لعبادتك، واذكر اسم ربك لتستمدّ قوّتك منه، وانقطع لعبادته ولا تتوجّه لأحد سواه، فهو الناصر والمعين، وهو رب العزّة، ذو الجلال والإكرام الذي لا يخيب من التجأ إليه، فاجعله وكيلاً لك في جميع الأمور.
واصبر يا محمد على تكذيب قومك لك، وعن صدودهم وإعراضهم عن دعوتك، ولا تتعرضّ لهم ولا تقابلهم بمثل إساءتهم، واهجرهم بالحسنى حتى يجعل الله لك من أمرك فرجاً ومخرجاً، بالنصر عليهم ونصر الله قريب.
وجوه القراءات
١- قرأ الجمهور ﴿ يا أيها المزَّمّل ﴾ بتشديد الزاي والميم، وقرأ أبَيّ بن كعب وأبو العالية ﴿ المتزمّل ﴾ بإظهار التاء على الأصل.
٢- قرأ الجمهور ﴿ هي أشدّ وَطْاً ﴾ وقرأ ابن عامر وأبو عمرو ﴿ وِطاءً ﴾ بكسر الواو مع المدّ وقرأ ابن محيصن ﴿ أشدّ وَطَاءً ﴾ بفتح الواو، والطاء، وبالمدّ.
وجوه الإعراب
١- قوله تعالى :﴿ ياأيها المزمل * قُمِ اليل إِلاَّ قَلِيلاً ﴾. ( المزمّلُ ) صفة ل ( أيّ ) قال ابن مالك : وأيّها مصحوبَ ( أل ) بعدُ صفة. و ( نصفَه ) بدل من الليل، بدل بعضٍ من كلّ.
قال الزمخشري :( نصفَه ) بدل من الليل، و ( إلاّ قليلاً ) استثناء من النصف، كأنه قال : قم أقل من نصف الليل، والضمير في ( منه ) يعود للنصف.
٢- قوله تعالى :( أشدّ وطأ ) لفظ ( أشدّ ) خبر المبتدأ، و ( وطأ ) تمييز، وجملة ( هي أشدُّ وطأً ) خبر ( إنَّ ).
٣- قوله تعالى :﴿ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ﴾ تبتّلْ : أمر و ( تبتيلاً ) مفعول مطلق وهو غير جارٍ على فعله، والأصل فيه أن يُقال ( تبتّلاً ) ولأن وزن ( تفعيل ) إنما تجيء في مصدر ( فعَّل ) كقولهم : رتَل ترتيلاً، وأما وزن ( تفعّل ) فيأتي المصدر ( تفعّلا ) إلا أنهم قد يُجرون المصدر على غير فعله كقول الشاعر :

وخير الأمر ما استقبلتَ منه وليس بأن تتّبعَه اتّباعاً
فأجرى اتباعاً مصدراً على ( تتبّع ) والقياس ( تتبّعاً ) والشواهد على هذه كثيرة.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : الحكمة في ندائه ﷺ بوصف التزمل هو إرادة ( الملاطفة والإيناس ) على نحو ما كان عليه العرب في مخاطباتهم من اشتقاق اسم للمخاطب من صفته التي هو عليها كقول النبي ﷺ لعلي كرّم الله وجهه، لمّا غاضب فاطمة وذهب إلى المسجد فنام فيه - وكان قد لصق بجنبه التراب- : قم أبا تراب، قم أبا تراب، للمؤانسة والملاطفة.


الصفحة التالية
Icon