﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مِّنْهُ ﴾ [ الجاثية : ١٣ ].
وبعد تقرير تلك الكليّات الأساسية في التصور الإسلامي، يبدأ في التطبيق العملي ﴿ اهدنا الصراط المستقيم * صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين ﴾. فالمعرفة والاستقامة كلتاهما ثمرة لهداية الله ورعايته ورحمته، وهو ثمرة الاعتقاد بأنه وحده المعين، وهذا الأمر أعظم ما يطلبه المؤمن من ربه، فالهداية فطرة الإنسان إلى ناموس الله، الذي ينسّق بين حركة الإنسان، وحركة الوجود كله في الاتجاه إلى الله رب العالمين، ويكشف عن طبيعة هذا الصراط المستقيم ﴿ صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ فهو طريق الذين قسم لهم نعمته، لا طريق الذين غضب الله عليهم.. إنه صراط السعداء المهتدين الواصلين.
ولعلَّ ذلك يكشف لنا عن سرّ من أسرار اختيار السورة ليردّدها المؤمن سبع عشرة مرة في كل يوم وليلة، أو ما شاء الله أن يردّدها كلّما قام يدعوه في الصلاة.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : أمر الباري - جل وعلا - بالتعوذ عند قراءة القرآن :﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن فاستعذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم ﴾ [ النحل : ٩٨ ].
قال جعفر الصادق :« إنه لا بد قبل القراءة من التعوذ، وأما سائر الطاعات فإنه لا يتعوذ فيها، والحكمة فيه أن العبد قد ينجس لسانه بالكذب والغيبة، والنميمة، فأمر الله تعالى العبد بالتعوذ ليصير لسانه طاهراً، فيقرأ بلسان طاهر، كلاماً أنزل من رب طيب طاهر ».
اللطيفة الثانية : المشهور عند أهل اللغة أن البسملة هي قول القائل :( بسم الله الرحمن الرحيم )، وقد اشتهر هذا في الشعر والنثر، قال الشاعر :

لقد بسملَتْ ليلَى غداةَ لقيتُها فيها حبّذَا ذاك الحبيبُ المبسملُ
وفي افتتاح القرآن الكريم بهذه الآية إرشادٌ لنا أن نستفتح بها كلّ أفعالنا وأقوالنا، وقد جاء في الحديث الشريف :« كلّ أمرٍ ذي بال لا يُبْدأ فيه بسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر » أي ناقص.
فإن قيل : لماذا نقول بسم الله، ولا نقول بالله؟
فالجواب كما قال العلامة أبو السعود : هو التفريق بين اليمين والتيمّن يعني التبرك، فقول القائل : بالله يحتمل القسم ويحتمل التبرك. فذكر الاسم يدل على إرادة التبرك والاستعانة بذكره تعالى، ويقطع احتمال إرادة القسم.
اللطيفة الثالثة : يرى بعض العلماء أنّ الاسم هو عين المسمّى، فقول القائل :( بسم الله ) كقوله :( بالله ) وأن لفظ الاسم مقحم كما في قول لبيد بن ربيعة :
إلى الحول ثمّ اسم السلام عليكما ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر
أي ثمّ السلام عليكما، وقد ردّ هذا شيخ المفسرين ابن الطبري.
قال ابن جرير الطبري : لو جاز ذلك وصحّ تأويله فيه على ما تأول لجاز أن يُقال : رأيت اسم زيد، وأكلتُ اسم الطعام، وشربت اسم الدواء، وفي إجماع العرب على إحالة ذلك ما ينبئ عن فساد تأويله، ويقال لهم : أتستجيزون في العربية أن يُقال : أكلتُ اسم العسل، يعني أكلتُ العسل؟
أقول : الصحيح ما قاله المحققون من المفسّرين إنّ ذلك للتفريق بين اليمين والتبرك.


الصفحة التالية
Icon