ولكم - يا أولي العقول - فيما شرعت لكم من القصاص حياة وأي حياة، لأنه من علم أن من قتل نفساً قُتل بها يرتدع وينزجر عن القتل، فيحفظ حياته وحياة من أراد قتله، وبذلك تصان الدماء، وتحفظ النفوس، ويأمن الناس على أرواحهم، ذلك هو شرع الله الحكيم، ودينه القويم، الذي به حياة الناس وسعادتهم في الدنيا والآخرة.
سبب النزول
أ - روي في سبب نزول هذه الآية عن قتادة أنَّ أهل الجاهلية كان فيهم بغيٌ وطاعة للشيطان، وكان الحي منهم إذا كان فيهم عدة ومنعة، فقتل عبدُهم عبدَ آخرين، قالوا : لن نقتل به إلا حراً، تعزّزاً لفضلهم على غيرهم، وإذا قتلت امرأةٌ منهم امرأةً من آخرين قالوا : لن نقتل بها إلا رجلاً، فأنزل الله ﴿ الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ﴾.
ب - وروي عن ( سعيد بن جبير ) أن حيّين من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل، فكان بينهم قتلٌ وجراحات حتى قتلوا العبيد والنساء، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا، فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال، فحلفوا ألا يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحر منهم، وبالمرأة منا الرجل منهم فنزل فيهم :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى... ﴾.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : أكرم الله هذه الأمة المحمدية فشرع لهم قبول الدية في القصاص، ولم يكن هذا في شريعة التوراة، روي البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال :« كان في بني إسرائيل القصاص ولم يكن فيهم الدية، فقال الله لهذه الأمة ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى ﴾ إلى قوله :﴿ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ﴾ فالعفو أن تقبل الدية في العمد ﴿ فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ﴾ يتبع الطالب بالمعروف، ويؤدي إليه المطلوب بإحسان ﴿ ذلك تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ﴾ ممّا كتب على من كان قبلكم ﴿ فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك ﴾ قتل بعد قبول الدية ﴿ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾.
اللطيفة الثانية : قوله تعالى :﴿ وَلَكُمْ فِي القصاص حياوة ﴾ الآية.
قال الزجاج :» إذا علم الرجل أنه إن قَتَل، أمسك عن القتل، فكان في ذلك حياة للذي همّ بقتله ولنفسه، لأنه من أجل القصاص أمسك. وأخذ هذا المعنى الشاعر فقال :
أبلغ أبا مالك عني مغلغلةً | وفي العتاب حياةٌ بين أقوام |