يريد أنهم إذا تعاتبوا أصلح العتاب ما بينهم «.
اللطيفة الثالثة : بيّنت هذه الآية على وجازتها حكمة القصاص، بأسلوب لا يُسامى، وعبارةٍ لا تُحاكى، واشتهر أنها من أبلغ آي القرآن.
ومن دقائق البلاغة فيها أن جعل فيها الضد متضمناً لضده، وهو ( الحياة ) في ( الإماتة ) التي هي القصاص، وعرّف القصاص ونكّر الحياة للإشعار بأن في هذا الجنس نوعاً من الحياة عظيماً لا يبلغه الوصف، وذلك لأن العلم به يردع القاتل عن القتل فيتسبب في حياة البشرية. ثم إنها في إيجازها قد ارتقت أعلى سماء للإعجاز، وقد اشتهر عن بعض بلغاء العرب كلمة في معناها، كانوا يعجبون من إيجازها وبلاغتها، ويظنون أن الطاقة لا تصل إلى أبعد من غايتها وهي قولهم :( القتل أنفى للقتل ) وإنما فتنوا بهذه الكلمة وظنوا أنها نهاية ما يمكن أن يبلغه البيان، لأنها قيلت قبلها أقوال المشاهير البلغاء كقولهم :( قتل البعض إحياء للجميع ) وقولهم :( أكثروا القتل ليقلّ القتل ) وأجمعوا على أن كلمة ( القتل أنفى للقتل ) أبلغ هذه العبارات على الإطلاق.
قال الإمام الفخر :» وبيان التفاوت بين النظم الكريم وبين كلام العرب من وجوه عدة :
الأول : أن النظم الكريم ( في القصاص حياة ) أشد اختصاراً من قولهم ( القتلُ أنفى للقتل ) لأن حروفها أقل.
الثاني : أن قولهم ( القتل أنفى للقتل ) ظاهرة يقتضي كون الشيء سبباً لانتفاء نفسه وهو محال.
الثالث : أنّ كلامهم فيه تكرار للفظ القتل، وليس في الآية الكريمة هذا التكرار.
الرابع : أن قولهم لا يفيد إلا الردع عن القتل، والآية أجمع لأنها تفيد الردع عن القتل والجراح.
الخامس : أن القتل ظلماً قتلٌ وليس نافياً للقتل، بل هو سبب لزيادة القتل، فظاهر قولهم باطل، وبذلك يظهر التفاوت بين الآية وبين كلام العرب.
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل يقتل الحر بالعبد، والمسلم بالذمي؟
اختلف الفقهاء في الحر إذا قتل عبداً، والمسلم إذا قتل ذمياً هل يقتلان بهما أم لا؟
فذهب الجمهور :( المالكية والشافعية والحنابلة ) إلى أن الحر لا يقتل بالعبد، ولا المسلم بالذمي.
وذهب الحنفية : إلى أن الحر يقتل بالعبد، وكذلك المسلم يقتل بالذمي.
أدلة الجمهور :
استدل الجمهور على مذهبهم بالكتاب، والسنة، والمعقول.
أ - أما الكتاب فقوله تعالى :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى ﴾ فقد أوجب الله المساواة، ثمّ بيّن هذه المساواة بقوله :﴿ الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ﴾.
فالحرّ يساويه الحر، والعبد يساويه العبد، والأنثى تساويها الأنثى، فكأنه تعالى يقول : اقتلوا القاتل إذا كان مساوياً للمقتول، قالوا : ولا مساواة بين الحر والعبد فلا يقتل به، وكذلك لا مساواة بين المسلم والكافر فلا يقتل به.
ب - وأما السنة : فما رواه البخاري عن علي كرم الله وجهه أن رسول الله ﷺ قال :« لا يُقتل مسلم بكافر ».