يقول فضيلة الشيخ السايس في كتابة « تفسير آيات الأحكام » ما نصه :
« والعقل يميل إلى تأييد قول أبي حنيفة في هذه المسألة، لأن هذا التنويع والتقسيم الذي جعله الشافعية والمالكية بمثابة بيان ( المساواة ) المعتبرة، قد أخرجوا منه طردا وعكساً الأنثى بالرجل، فذهبوا إلى أن الرجلُ يقتل بالأنثى، والأنثى تقتل بالرجل، وذهبوا إلى أنّ الحر لا يقتل بالعبد، ولكنهم أجازوا قتل العبد بالحر، فهذا كله يُضعف مسلكهم في الآية. أما مسلك أبي حنيفة فيها فليس فيه هذا الضعف، وحينئذٍ يكون العبد مساوياً للحر، ويكون المسلم مساوياً للذمي في الحرمة، محقون الدم على التأييد ».
الترجيح :
أقول : مذهب أبي حنيفة في قتل الحر بالعبد معقول المعنى، مؤيد « من قتل عبده قتلناه... » فالإسلام قد ساوى بين الأحرار والعبيد في الدماء، فحرمة العبد كحرمة الحر، ونفس العبد كنفس الحر، ولهذا يقتل به.
أما قتل المؤمن بالكافر : ففي النفس من قول أبي حنيفة شيء، والراجح فيه رأي الجمهور لا سيما بعد أن تأكد بالدليل الثابت « لا يُقتل مسلم بكافر » أخرجه البخاري.
وكما يقول ابن كثير رحمه الله : لا يصح حديث ولا تأويلٌ يخالف هذا.
ثمّ كيف يتساوى المؤمن مع الكافر، مع أن الكافر شرّ عند الله من الدابة؟ والمؤمن طيّب طاهر والله تعالى يقول :﴿ إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ ﴾ [ التوبة : ٢٨ ] ويقول :﴿ قُل لاَّ يَسْتَوِي الخبيث والطيب ﴾ [ المائدة : ١٠٠ ]، فكيف نقتل مؤمناً طاهراً بمشرك نجس؟! فالراجح إن شاء الله في هذه المسألة قول الجمهور. وقد رأيت في بعض مراجعاتي قصة لطيفة وهي أن ( أبا يوسف ) القاضي من تلامذة الإمام أبي حنيفة، رفعت إليه قضية، تتلخص في أن مسلماً قتل ذمياً كافراً، فحكم عليه أبو يوسف بالقصاص، فبينما هو جالس ذات يوم، إذ جاءه رجل برقعةٍ فألقاها إليه ثم خرج، فإذا فيها هذه الأبيات :

يا قاتلَ المسلم بالكافرِ جرتَ وما العادلُ كالجائر
يا مَنْ ببغدادَ وأطرافِها من علماء الناسِ أو شاعرِ
استرجُعوا وابكُوا على دينكم واصطبروا فالأجرُ للصابر
جار على الدين أبو يوسف بقتله المؤمن بالكافر
فدخل أبو يوسف على الرشيد وأخبره الخبر، وأقرأه الرقعة فقال له الرشيد : تدارك هذا الأمر لئلا تكون فتنة.. فدعا أبو يوسف أولياء القتيل وطالبهم بالبينة على صحة الذمة وثبوتها، فلم يستطيعوا أن يثبتوا فأسقط القود وأمر بدفع الدية.
مناظرة لطيفة
ذكر العلامة أبو بكر ابن العربي في تفسيره « أحكام القرآن » هذه المناظرة اللطيفة فقال :
« ورد علينا بالمسجد الأقصى سنة سبع وثمانين وأربعمائة، فقيهٌ من عظماء أصحاب أبي حنيفة يعرف ب ( الزوزني ) زائراً للخليل صلوات الله عليه، فحضرنا في حرم الصخرة المقدسة - طهّرها الله - معه، وشهد علماء البلد، فسئل على العادة عن قتل المسلم بالكافر فقال : يُقتل به قصاصاً، فطولب بالدليل فقال : الدليل عليه قوله تعالى ﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى ﴾ وهذا عامٌ في كل قتيل.


الصفحة التالية
Icon